جدل “الاستراتيجيات” في لبنان: لنقاش السلاح أم للتهرّب منه؟

جدل “الاستراتيجيات” في لبنان: لنقاش السلاح أم للتهرّب منه؟

الكاتب: محمد علوش | المصدر: المدن
11 أيلول 2025

حين نتحدث عن “الاستراتيجية الدفاعية” فإننا ندخل مباشرة في صلب العقيدة العسكرية لأي دولة، أي الطريقة التي تحدد بها كيف تواجه عدواً خارجياً أو تهديداً عسكرياً مباشراً. هذا المفهوم يرتكز إلى جانب واحد هو القوة المسلحة، وما هي طبيعة التهديد؟ من هو الخصم؟ كيف تُبنى القوات المسلحة وهيكليتها؟ وأي منظومات ردع وتسلح تُعتمد لمواجهة الخطر؟ كل ذلك يُختصر بهدف مركزي هو حماية السيادة ومنع العدوان، بالاعتماد على الجيش أو على التحالفات العسكرية أو القوة العسكرية الداخلية. أما حين ننتقل إلى مفهوم “استراتيجية الأمن الوطني”، فنحن أمام رؤية أشمل بكثير، وهنا لا تعود المسألة مقتصرة على البندقية، بل على كل ما يضمن بقاء الدولة ومجتمعها واستقرارها. 

يتعامل الأمن الوطني مع السياسة والاقتصاد والاجتماع والبيئة والصحة وحتى الثقافة، بوصفها جميعاً ميادين أمنية. انهيار العملة قد يكون تهديداً أخطر من الغارات الجوية، والانقسام الطائفي قد يفتك بالمجتمع أكثر مما تفعل المدافع. لذلك تنظر استراتيجيات الأمن الوطني إلى التهديدات الخارجية والداخلية معاً، وتُعالجها بأدوات متعددة، من الدبلوماسية والاقتصاد إلى التربية والإعلام، إضافة طبعاً إلى الجيش. ومن هنا يمكن القول إن الاستراتيجية الدفاعية ليست سوى جزء صغير داخل الإطار الواسع الذي يشكله الأمن الوطني.

الفارق بين المفهومين إذن جوهري، الاستراتيجية الدفاعية عسكرية بحتة وتركز على كيفية ردع العدو في لحظة المواجهة، بينما استراتيجية الأمن الوطني هي شاملة، طويلة الأمد، وتهدف إلى منع التهديدات من جذورها وتحويل الدولة نفسها إلى بنية صلبة يصعب اختراقها. 

من “دفاعية” إلى “أمن وطني”

في السياق اللبناني، النقاش حول الاستراتيجية الدفاعية ارتبط حصراً بسلاح حزب الله وعلاقته بالجيش، إذ كان السؤال دائماً كيف نوزع الأدوار بين المؤسسة العسكرية والمقاومة في مواجهة إسرائيل؟ هذا الطرح بقي محصوراً في البعد العسكري، وكان يعتمد عليه حزب الله كلما وضع ملف سلاحه قيد التداول، فتحوّل ملف “الاستراتيجية الدفاعية” إلى مادة خلاف داخلي.

من هنا جاء تصريح رئيس الحكومة نواف سلام بأن “لا وجود لاستراتيجية دفاعية بل لاستراتيجية أمن وطني”. فالرجل بحسب مقربين منه فسروا موقفه بأنه أراد أن ينقل النقاش من الإطار الضيق، مع حزب الله، إلى الأفق الأوسع على طاولة حكومة كل لبنان، لأنه على اقتناع بأن أمن لبنان لا يتحدد فقط بالبندقية، بل أيضاً بكيفية معالجة الاقتصاد المنهار، إنهاء الانقسام المذهبي، محاربة الفساد، وغيرها الكثير من النقاط التي تحتاج إلى معالجة.

ما الذي يريده حزب الله من الاستراتيجية الدفاعية؟

بالنسبة إلى حزب الله، وبحسب مصادر مقرّبة منه، فإن الحديث عن “الاستراتيجية الدفاعية” كنتيجة حتمية لمسار حواري يبحث مسألة السلاح جدياً، يعني تثبيت مشروعية سلاحه كجزء من منظومة حماية لبنان من الأخطار التي تواجهه اليوم أو تواجهه في المستقبل، مشيرة عبر “المدن” إلى أن الحزب يسعى إلى إعادة الحصول على اعتراف رسمي بالمقاومة كقوة ردع إلى جانب الجيش اللبناني.

بحسب المصادر، إن أول ما يبادر الحزب إلى تقديمه كمثال حول نظرته للاستراتيجية الدفاعية هو معارك الجرود اللبنانية في وجه الإرهاب والجماعات التكفيرية، يوم خاض إلى جانب الجيش والأهالي معركة تحرير الجرود وتأمين الحدود مع سوريا.

في نظر الحزب، أي استراتيجية دفاعية يجب أن تُبنى على قاعدة التكامل بين الجيش والمقاومة لحماية الشعب، بحيث يبقى سلاحه، في الحدّ الأدنى محصّناً بغطاء رسمي، ولو كان  قراره في يد الدولة والجيش، وفي الحدّ الأقصى يبقى له هامش المناورة والتحرك في مواجهة إسرائيل.

ما الذي يريده خصومه من استراتيجية الأمن الوطني؟

أما خصوم الحزب، فحين يرفعون شعار “استراتيجية الأمن الوطني” بدل الاستراتيجية الدفاعية، فإنهم يريدون العكس تماماً، أي نقل النقاش من البندقية إلى الدولة، من المقاومة إلى المؤسسات، فبرأيهم، لا يمكن بناء دولة حديثة فيما القرار العسكري والسيادي موزّع بين جيش نظامي ومجموعة حزبية مسلحة، لذلك، هم يدفعون نحو مفهوم أوسع آخر ما يهتم به هو القوة العسكرية، على اعتبار أن لبنان مهما بلغت قوته لن يصبح أقوى من إسرائيل تسليحاً وعسكرياً، وبالتالي هم يسعون من خلال هذه الاستراتيجية إلى إلغاء خصوصية سلاح حزب الله نهائياً.

هل يُريد سلام التهرب من نقاش مصير السلاح؟

في المبدأ العام، تفهم المصادر المقربة من حزب الله من حديث رئيس الحكومة أنه أراد أن يقول للحزب إن النقاش حول استراتيجية أمن وطني لا يكون معه فقط، ولا يكون في حوار يقوده رئيس الجمهورية جوزيف عون، بل داخل الحكومة، كذلك قد يُفهم من كلامه، بحسب المصادر نفسها، القول إن هذه الاستراتيجية ليست متعلقة بسلاح المقاومة الذي تم أخذ القرار في شأنه في جلسة الخامس من آب، ولكنها تُشير إلى أنه بحسب التعريفات العلمية فإنه لا يمكن لاستراتيجية الأمن الوطني أن تخلو من السلاح، والاستراتيجية الدفاعية للدولة اللبنانية هي جزء من استراتيجية الأمن الوطني، ولا بد لها أن تُناقش السلاح وتستثمره.

الحقيقة أن ما قاله سلام ينسجم مع المنطق العلمي، في بلد تكون تعابيره السياسية، سياسية فقط. فالدول الحديثة نادراً ما تتحدث عن “استراتيجية دفاعية” منفصلة، بل تبني استراتيجية للأمن الوطني تُدرج في داخلها العقيدة الدفاعية كجزء مكمّل، ولكن، في الواقع اللبناني، الجميع يعلمون أن الحديث في الاستراتيجية سببه أساساً وجود سلاح حزب الله فقط، بينما كل النقاط الأخرى التي قد تتضمنها الاستراتيجية هي مجرد حبر على ورق.

الخلاصة أن الإستراتيجية الدفاعية هي لغة الجيش والسلاح، بينما استراتيجية الأمن الوطني هي لغة الدولة بكاملها، وإذا كان التزام بذلك فلا مشكلة لدى المقاومة في لبنان بالنقاش فيها والمساهمة في بنائها، أما إذا كان البعض يتجه نحو الحديث عن استراتيجية أمن وطني لإلغاء فكرة النقاش حول كيفية استثمار سلاح المقاومة في بناء قوة للدولة اللبنانية، فهذا يعني أننا متوجهون نحو مشكلة جديدة في لبنان اسمها: تعريف استراتيجية الأمن الوطني.