
علاقة عون مع بري والحزب: خيوطُ حوارٍ لمنع التصادم
لم تكن علاقة الرئيس جوزاف عون بالقوى السياسية الشيعية مسألة عابرة أو تفصيلية منذ دخوله الحياة العامة من بوابة المؤسسة العسكرية وصولاً إلى رئاسة الجمهورية. فقد شكّلت هذه العلاقة محوراً أساسياً في رسم معادلات التوازن السياسي في عهده، نظراً إلى ما تمثله الطائفة الشيعية في المعادلة اللبنانية مثلها مثل الطوائف الأخرى، وما يمثله كل من الرئيس نبيه بري وحزب الله كركنين رئيسيين فيها. عون، الذي يدرك حساسية هذه المعادلة وتشابكها، سعى منذ اليوم الأول إلى إدارة العلاقة مع هذه الأطراف بقدر عالٍ من الحذر والمرونة: فهو حافظ على خط ثابت من التنسيق مع بري رغم التباينات الاخيرة حول مقاربة ملف السلاح في مجلس الوزراء، وفتح قنوات تواصل مع حزب الله ولو بحدود مدروسة، وفي الوقت نفسه أكد احتضانه للطائفة الشيعية ككل ورفضه أي محاولة لتهميشها.
على هذا الأساس، ترتكز مقاربة عون إلى معادلة دقيقة: حوار مستمر من دون قطيعة، تفهّم للهواجس من دون تنازل عن الثوابت، وحرص على الاستقرار الوطني عبر الجيش الذي يضعه خطاً أحمر لا يُمس. وفي ضوء ذلك، تتضح ملامح استراتيجيته: المعالجة الهادئة بدل المواجهة، والتدرّج في الحوار بدل التسرّع الذي يهدد الاستقرار الداخلي.
عون وبري: تنسيق رغم التباينات
منذ مرحلة قيادة الجيش، نسج جوزاف عون علاقة وثيقة مع الرئيس نبيه بري. هذه العلاقة التي إنطلقت على قاعدة الاحترام والتعاون، استمرت معه بعد إنتخابه رئيساً للجمهورية، فبقي التنسيق قائماً في شكل دائم بين بعبدا وعين التينة في العديد من الملفات.
بعد إنتخاب عون، ظلّت جسور التواصل قائمة بشكل طبيعي، لكن مع مرور الوقت ظهرت بعض التباينات في وجهات النظر. ورغم ذلك، لم تنقطع الاتصالات قط، إذ نشّط العميد أندريه رحّال دوره كموفد ثابت من بعبدا إلى عين التينة، كما تولّت شخصيات على صلة بالرجلين مهمة تذليل أي سوء تفاهم أو سوء تقدير.
في المرحلة الأخيرة، وقبيل جلسة الخامس من أيلول، بلغ التباين ذروته، ما استدعى البحث عن مخرج يحفظ التوازن بين المواقف. وهنا، يكشف مطلعون على خطوط التواصل بين بعبدا وعين التينة لـ”المدن”، برز دور النائب علي حسن خليل، الذي تولّى صياغة مشروع البيان المرتبط بالجلسة. وهذا المشروع لم يُعتمد مباشرة، بل خضع لسلسلة طويلة من المراجعات والمناقشات، وجرى إدخال تعديلات دقيقة عليه، في المصطلحات والعبارات. وبعد عرض البيان على الأطراف المعنيين، استقر النص النهائي عند الواحدة فجر الجمعة، أي قبل ساعات قليلة فقط من انعقاد الجلسة.
في جوهر الأمر، لم يكن التباين بين بري وعون خلافاً شخصياً أو قطيعة، بل انعكاساً لحسابات حساسة داخل البيت الشيعي، وهو ما أدركه الرئيس عون وتفهّمه واحترمه. ولتأكيد أن العلاقة لم تصبها القطيعة، جاء لقاء عيد السيدة العذراء في الثامن من أيلول الجاري في بعبدا، حيث زار بري الرئيس عون في جلسة وُصفت بأنها مثمرة، “أزالت الغشاوة التي لفت العلاقة موقتاً”، و”أعادت إليها الحرارة، بعدما بقيت أسسها قائمة منذ البداية”.
حزب الله: تواصل محدود وانتقادات مضبوطة
على خط حزب الله، لم تكن العلاقة بالزخم والتفاعل اللذين طبعا علاقة عون مع بري، لكنها بقيت قائمة عبر قنوات مباشرة وغير مباشرة. فقد قام وفدان من الحزب بزيارتين لبعبدا، كما تولى وسطاء، بينهم محمد عبيد، مهمة إبقاء الجسور مفتوحة. إلا أن قرار مجلس الوزراء الأخير أدى إلى فرملة هذا التواصل، واستُعيض عنه بمواقف عن بُعد، حيث وجّه حزب الله انتقاداته أساسًا إلى رئيس الحكومة، فيما تجنّب مهاجمة رئيس الجمهورية مباشرة عبر منابره الإعلامية. ومع التسوية التي صدرت عن مجلس الوزراء، خفتت حدة الخطاب، وإن بقي التركيز منصبًا على الحكومة. وفي هذا السياق، جاء كلام الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم الأخير ملتزمًا سقف انتقادات لا تتجاوز الحدود المرسومة مع بعبدا، ما سمح للرئيس عون بالحفاظ على توازن دقيق بين الحكومة والحزب، من دون أن يتنازل عن موقفه الثابت في شأن حصرية السلاح بيد الدولة.
ورغم التداول باحتمال قيام النائب محمد رعد بزيارة القصر الجمهوري، إلا أن الأمر لا يزال في خانة الكلام، من دون خطوات ملموسة حتى اللحظة. ومع ذلك، لا يمكن وصف العلاقة بالقطيعة، بل هي حالة انتظار وتجميد مرحلي.
مع الشيعة: لا تهميش ولا تطويق
في موازاة ذلك، يحرص الرئيس عون على إبقاء خيط مباشر مع الطائفة الشيعية بعمقها الشعبي، بعيدًا من الاصطفافات السياسية. فمنذ توليه قيادة الجيش، حافظ العماد جوزاف عون على المساواة بين كل مكونات المؤسسة العسكرية ولم يمس أحد بمواقع الضباط الشيعة كغيرهم من الضباط الكفوئين، واليوم يحيط به معاونون ومستشارون من أبناء الطائفة. وهو يميّز بوضوح بين علاقته بالشيعة كطائفة، وبين علاقاته بالقوى السياسية التي تمثلها، سواء الرئيس بري أو حزب الله، أو غيرهما من القوى الشيعية المستقلة. وعون يؤكد دومًا أنه لن يسمح بتهميش أي طائفة أو مكوّن في عهده، وأن أي محاولة لخلق مناخ يطوّق الثنائي الشيعي مرفوضة، لأن في ذلك مساسًا بحقوق الطائفة ودورها الوطني. علاقاته مع شخصيات شيعية خارج الثنائية تعزز هذا التوجه، وتكرّس صورة الرئيس الحريص على احتضان كل الطاقات.
وسط هذا المشهد، لا يغفل عون عن واقع حزب الله وتضحياته. فهو يدرك حجم الخسائر التي تكبّدها من شبابه ومقاتليه وتهجير جمهوره من قراهم وبلداتهم وخسارته أرزاقه ومنازله، ويعي عمق الجرح الذي يعيشه هذا المكوّن. من هنا، هو لا يذهب في اتجاه الطعن بهذا الجمهور أو زيادة معاناته، بل يسعى إلى مقاربة ملف السلاح بروح من الحوار والهدوء، بحثًا عن قواسم مشتركة تؤسس لدولة قوية وعادلة لجميع أبنائها، تعيد القرار إلى سلطة الدولة القوية، لاسيما قرار الحرب والسلم، وتجعل السلطة العسكرية حصراً بيد الشرعية المتمثلة بالجيش اللبناني والأجهزة الأمنية.
الجيش خط أحمر
رئيس الجمهورية يجزم بأن أي معالجة للسلاح الخارج عن الشرعية ولاسيما سلاح حزب الله لن تكون بالقوة، ولن تهزّ السلم الأهلي. وهو يرى أن التسرع في هذا الملف قد يدخل البلد في أزمة داخلية خطيرة، فيما المعالجة الهادئة الواقعية هي الضمانة. لذلك يرفض أي رهان على انقسام الجيش أو تعرضه لهزات، إذ يعتبره مؤسسة متماسكة بعقيدتها، ولن يُعرض وحدتها للخطر. وإذا ما تقرر تنفيذ الخطة المتعلقة بالسلاح، فستكون عبر جيش واحد موحّد. وبذلك يختصر الرئيس عون رؤيته ومقاربته للعلاقة مع المكونات اللبنانية عموماً والمكون الشيعي خصوصاً على قاعدة أن المعالجة الهادئة هي السبيل إلى الحل، ولو تأخر التوصل إليه قليلاً.