الدولة تحاصر السلاح وتفكك الأساطير

الدولة تحاصر السلاح وتفكك الأساطير

الكاتب: سامر زريق | المصدر: نداء الوطن
13 أيلول 2025

يتشبث الفرس بملاليهم بالملحمة الخالدة “الشاهنامة” للفردوسي، وأساطيرها، وخصوصًا قصص رستم بن دستان، الذي خاض حروبًا ضد الأباطرة والوحوش والجن، والكثير منها على ظهر حصانه الأسطوري “رخش”، أي “الرعد”، والذي يختزن حمولة تاريخية مكثفة يعبر عنها بـ “صواريخ رعد”، وبالأسطون محمد رعد، ولا سيما مع ميل العديد من الباحثين والمحققين، إلى أن حكايات رستم كانت المصدر الذي اقتبست منه الأساطير المكثفة التي حيكت حول الإمام علي بن أبي طالب في المخيال الشعبي الشيعي.

فالأساطير تلعب دورًا مركزيًا في صناعة الأيديولوجيا وترويجها لإخضاع الأمم والمجتمعات وتذويبها في قالب جماهيري مرصوص. في القلب منها تبرز العاطفة الدينية، حيث يشرح غوستاف لوبون في كتابه “سيكولوجية الجماهير”، كيفية توظيفها لخلق صورة البطل، أو فكرة سياسية، عبر بثّ أفكار تضرب أوتارًا حساسة تنسلّ إلى اللاوعي الجمعي، فتصير لها قوة مخيفة تجعل الجماهير تخضع لها خضوعًا أعمى، بالارتكاز على 3 محددات أساسية: التأكيد، التكرار، والعدوى.

وهذا ما يفعله قادة “حزب الله” اليوم عبر الإكثار من الخطب العصماء. يتمسك المنتج الأبرز للمشروع الملالي بهذه الأساطير، ويزوّقها عبر مزيج مركّب يدمج الدينية والسياسية لستر عورات سردية مأزومة، وتحويل الخيبات المتوالية إلى انتصارت مزيفة تعينه على استدامة إخضاع حاضنته الشعبية. أحدث الأساطير التي تسوقها الآلة الإعلامية الممانعة انتصار “الحزب” وليّه ذراع الدولة ضمن صراع وجودي متخيّل، بإجبار حكومة الرئيس نواف سلام على التراجع عن خطيئة 5 آب، تمكنت من إحداث تأثير سلبي في الحاضنة اللبنانية الواسعة المتحلقة حول مشروع الدولة.

بيد أن هذا الانتصار المزعوم يبتعد عن عرض خطة الجيش لأن ذلك كفيل بتبديد هالات الوهم المكثفة، فيما يتوكّأ نعيم قاسم ومحمد رعد عليها لمواصلة الضغط على الحكومة ومطالبتها بقرار واضح يلغي مفاعيل جلسة 5 آب. وبالتالي صار لزامًا تقديم بعض تفاصيل هذه الخطة لتفكيك طبقات الوهم هذه، والالتباس الناشئ عند حاضنة الدولة وليس لدى المؤدلجين.

ذلك أن خطة الجيش هي استكمال لمسار انطلق مع “اتفاق وقف الأعمال العدائية” وبنوده المحددة بدقة من يتاح له حمل السلاح، والذي توصّل إليه المفاوض الرئيس نبيه بري، ووافقت عليه بـ “الإجماع” حكومة نجيب ميقاتي، التي كان “الثنائي الشيعي” يمتلك ناصية عقدها وفرطها، وبتأييد من ملالي إيران، وترجم بخطاب القسم والبيان الوزاري لحكومة الرئيس نواف سلام، التي وضعت الاتفاق ضمن خانة تطبيق “اتفاق الطائف”، بعد تأخير تجاوز 3 عقود نتيجة وصاية إرهاب الأسدين ثم بندقية الملالي المعروفة بـ “حزب الله”.

وبعد قرابة 5 أشهر من حوار بين رئيس الجمهورية و”الحزب” لم يفضِ إلى إقناع الأخير بالاندماج في مسار الدولة، ولو عبر خطوات صغيرة، لأن قراره هناك في طهران، استكمل الرئيس نواف سلام هذا المسار بخطوة جريئة، بإصراره الحاسم على إقرار مجلس الوزراء في 5 آب إطارًا زمنيًا محددًا لحصرية السلاح، ينهي أطول انقلاب على الشرعية في التاريخ المعاصر، ويفسح المجال أمام الدولة للخروج من العزلة التي أنتجتها وصاية البندقية، وإعادة الاندماج المتدرج في منظومة إقليمية يعاد تشكيل توازناتها ومعادلاتها.

عرض الجيش الخطة التي صاغها بالتنسيق مع السلطة السياسية وأركانها، وفي طليعتهم الرئيس نبيه بري، ومن خلفه “الحزب”، وتتضمن عدة مراحل تشمل كل السلاح غير الشرعي بمختلف هوياته ومسمياته. وبذا أمست جلسة 5 أيلول محطة تاريخية لكونها أنهت التعاون الذي كان قائمًا بين رمز الشرعية و”الدويلة”، والمغطى قانونيًا بالثلاثية الخشبية إياها، والتي أتاحت لـ “الحزب” أن يكون صاحب القرار حتى بمن يحق له الاشتراك في الحرب الأخيرة، من “قوات الفجر” و”القسام” و”سرايا القدس” إلى “أمل” و”القومي” وغيرهم.

تنصّ المرحلة الأولى على نزع السلاح جنوب الليطاني، في موازاة منع نقل أو استخدام السلاح على كافة الأراضي اللبنانية. وبالتالي صار الجيش يمتلك الغطاء السياسي والقانوني لاعتقال حمولات الصواريخ وعناصرها وآلياتها، بالإضافة إلى استكمال عملية سحب سلاح المخيمات التي بدأت بالتنسيق مع السلطة الفلسطينية، ومحاصرة بندقية حماس والفصائل المتحالفة مع “الحزب” لإخضاعها وليس قتالها.

في حين أن المرحلة الثانية تتضمن نزع السلاح بين “الليطاني” و”الأولي” وجعل الجنوب منطقة منزوعة السلاح غير الشرعي، وينسحب الأمر على المرحلة الثالثة في بيروت الكبرى، بما فيها ضاحيتها الجنوبية عاصمة نفوذ “الحزب”، والرابعة في البقاع حيث ترسانته العسكرية وقاعدته العقائدية الصلبة. وبالتالي فإن الدولة بعد جلسة 5 أيلول زادت من حصارها العملاني للسلاح.

“الحزب” المعوّل على عامل الوقت للالتفاف على هذه العملية المتدرجة وتقويضها عبر حدث ما يستدعي اهتمام الفاعلين الخارجيين، تلقف الضربة الإسرائيلية على قطر من أجل بث أسطورة جديدة ترتكز على قراءة محرفة لتقديم مبرر يطيل عمر البندقية، واستثمار انشغال دول الخليج بمسألة أكثر اتصالًا بأمنها القومي. فيما الأصل أنها رسالة خطيرة المعنى تعضد الخطوات الجريئة والجدية التي يقودها الرئيس نواف سلام بالشراكة مع الرئيس جوزاف عون.

لدحض هذه الأسطورة لا مناص من تفكيك أسطورة الانتصار الإلهي في حرب تموز 2006 وقواعد الاشتباك التي قيل إنها أرسيت مذّاك. تلك الحرب لم تكن نتائجها لتخرج بما انتهت إليه لولا وجود مقاربة ناشئة لسياسة خارجية واعدة جرى حصارها ووأدها في ما بعد، ربطت لبنان بشبكة موثوقة من التحالفات الإقليمية والدولية حالت دون خلق إسرائيل ظرفًا سياسيًا يتيح لها التفرّد به كما هي الحال راهنًا على وقع التأثيرات المستمرة لـ “طوفان الأقصى”. تلك المقاربة تنسجم مع آليات الدفاع للدول الصغيرة التي تحدث عنها علماء السياسة البارزون، مثل الأميركي روثشتاين ومواطنه كيوهان، والتي تبين بأن هذه الدول لا يمكنها الحصول على الأمن إذا اعتمدت فقط على إمكاناتها الذاتية.

هذه المبادئ استند إليها الرئيس سلام، المختلف عن أسلافه في الكثير من الخصائص، وأبرزها أنه قارئ خبير ملأ أرجاء السراي ليس بجيوش المرافقين والمستشارين والطامحين، بل بمخزون ثقافي ومعرفي يوظفه لصياغة سياسات تتناسب مع إمكانيات الدولة لمواجهة التحديات المعقدة، من أجل إدراج استراتيجية الأمن الوطني في البيان الوزاري وإطلاقها مؤخرًا، ترتكز على مزيج عناصر تشتمل على إظهار الإرادة السياسية، وتفعيل مؤسسات الدولة، وتطوير أطر التعاون مع الدول الفاعلة إقليميًا ودوليًا.

عمليًا، يظهر الرئيس نواف سلام صلابة رجل الدولة التي تختزن حرصًا شديدًا على حاضنة “الحزب” الشعبية من استغلال صناع الأساطير ومروّجيها، كي لا تلاقي مصير سهراب، ابن رستم، الذي حلم بتوحيد قوته مع أبيه، إلا أن الأخير قتله في ساحة المعركة.