الملك الأخير لإسرائيل: نبوءة نتنياهو بين الأسطورة والواقع

الملك الأخير لإسرائيل: نبوءة نتنياهو بين الأسطورة والواقع

الكاتب: طوني بولس | المصدر: اندبندنت عربية
13 أيلول 2025

عاد مصطلح “إسرائيل الكبرى” إلى الواجهة مثيراً نقاشاً بين من يراه مشروعاً توسعياً جغرافياً من النيل إلى الفرات، ومن يراه تعبيراً عن تفوق عسكري ونفوذ إقليمي، القراءة الأولى تستند إلى وعد توراتي غذّى خيال المتشددين، فيما الثانية تنطلق من الواقع بتراجع المحور الإيراني وبروز إسرائيل كقوة جوية قادرة على ضرب أهداف في لبنان وسوريا والعراق واليمن وحتى إيران.

في الأوان الأخيرة، عاد مصطلح “إسرائيل الكبرى” ليتصدر النقاشات في الصحف ومراكز الأبحاث ليثير جدلاً واسعاً حول ماهية هذا المشروع وحدوده، فبينما يرى البعض فيه مشروعاً توسعياً جغرافياً يقوم على ضم أراضٍ تمتد من النيل إلى الفرات وتحويلها إلى مجال حيوي مباشر تحت السيادة الإسرائيلية، يراه آخرون مشروع نفوذ إقليمي أكثر منه مشروع حدود.

وفق هذه القراءة الثانية، فإن “إسرائيل الكبرى” تُترجم اليوم في قدرة إسرائيل على تثبيت تفوقها العسكري النوعي وإزاحة خصومها الإقليميين، لتتحول إلى اللاعب العسكري الأبرز في الشرق الأوسط.

القراءة الأولى تستند إلى وعد توراتي قديم، غذّى منذ بدايات الحركة “الصهيونية” خيال بعض المتشددين الذين رسموا خرائط تتجاوز فلسطين إلى أجزاء من مصر وسوريا والعراق ودول أخرى، أما القراءة الثانية فترتكز على المعطيات الحديثة: انحسار نفوذ المحور الإيراني وتراجع أنظمته الحليفة، مقابل بروز إسرائيل كقوة جوية قادرة على التحليق بحرية واستهداف مواقع دقيقة في لبنان وسوريا والعراق واليمن، وصولاً إلى طهران نفسها، وبهذا المعنى، لم تعد “إسرائيل الكبرى” مرتبطة بخطوط على الخرائط، بل باتت مرادفاً لتفوق عسكري وردع إستراتيجي عابر للحدود.

ما يجمع بين البعدين الديني والسياسي هو شخصية بنيامين نتنياهو، فهو يتحرك بين الأسطورة والواقع، من جهة، يحمل عبء النبوءة التي بشّر بها الحاخام شنيرسون باعتباره “الملك الأخير لإسرائيل” الذي سيسلّم مفاتيح القدس للمسيح، ومن جهة أخرى يوظّف التفوق العسكري والإنجازات الميدانية ليقدّم كل خطوة سياسية أو عسكرية كجزء من مسار نبوئي.

الملك الأخير لإسرائيل

لفهم هذا البعد الرمزي، لا يمكن تجاوز شخصية بنيامين نتنياهو الرجل الذي حكم إسرائيل لأطول فترة في تاريخها لم يُقدّم نفسه مجرد سياسي، بل حامل رسالة تاريخية، والقصة وفق عدة مصادر وتقارير غربية تعود إلى لقاءاته في ثمانينيات القرن الماضي مع الحاخام مناحم مندل شنيرسون، زعيم حركة “حباد لوبافيتش”.

في عام 1984، وفق تلك المصادر، كان نتنياهو مندوب إسرائيل لدى الأمم المتحدة، حين أخبره شنيرسون أنه “المكلف بمهمة إلهية” وأنه سيكون الملك الأخير لإسرائيل الذي سيحميها ويسلّم مفاتيح القدس للمسيح المنتظر، وبعد عقد من الزمن، أعاد الحاخام التأكيد لنائبه الشاب في الكنيست أن عليه ألا يتنازل عن أي شبر من أرض إسرائيل، وأن يهيئ الدولة لتكون أكثر تديناً، لأن ذلك سيسرّع ظهور المسيح.

البعد النفسي والديني

تفسر هذه الخلفية جانباً من تشدد نتنياهو ورفضه أي تنازلات كبرى، فهو يرى أن كل انسحاب من أرض محتلة يبطئ الخلاص، وكل توسع أو تمسك بها يقرب النبوءة، لذلك ضاعف الاستيطان في الضفة، ورفض “حل الدولتين”، ورسّخ السيطرة الإسرائيلية على القدس، كما تحالف مع أحزاب يمينية دينية مثل سموتريتش وبن غفير، مانحاً إياها نفوذاً غير مسبوق، لأنها تشاركه الإيمان نفسه.

هذا التزاوج بين الديني والسياسي أفضى إلى خلط الأيديولوجيا الدينية بالإستراتيجية السياسية، فنتنياهو لا يتحدث فقط عن أمن إسرائيل بل عن “أبناء النور ضد أبناء الظلام”، مستشهداً بنصوص توراتية تدعو إلى إبادة “عماليق” في إسقاط واضح على الفلسطينيين، هنا يتحول الصراع السياسي إلى مواجهة وجودية مقدسة، وتتحول القرارات العسكرية إلى خطوات نحو “النبوءة”.

حدود أم نفوذ؟

عند العودة إلى المصطلح نفسه، نجد أنه يحمل قراءتين، الأولى القراءة الجغرافية، إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات، وهي التي روّج لها متطرفون تاريخياً، وأعاد نتنياهو نفسه إحياءها حين تسلّم “تميمة” على شكل هذه الخريطة في لقاء إعلامي عام 2024، مؤكداً أنه يرى نفسه في “مهمة تاريخية” لتحقيقها، هذه الرؤية أثارت قلق مصر والأردن تحديداً.

والقراءة النفوذية، وهي الأحدث، تربط المشروع بالواقع الميداني، فبعد عقد من الحروب والضربات، بات سلاح الجو الإسرائيلي يحلّق بحرية في سماء سوريا ولبنان والعراق واليمن، ويستهدف بدقة مخازن أسلحة وقواعد إيرانية، بهذا المعنى، “إسرائيل الكبرى” ليست “إسرائيل بحدود أوسع”، بل إسرائيل بقدرة أوسع، قدرة على الوصول إلى كل مكان، وإزاحة خصومها من أي مكان.

الجدل العام اليوم يراوح ما بين هذين التفسيرين، لكن المؤكد أن نتنياهو نفسه يستثمر الاثنين معاً، الأسطورة التوراتية لتعبئة الداخل والحلفاء اليمينيين، والتفوق العسكري لإظهار الإنجاز الواقعي في مواجهة خصومه الإقليميين.

نتنياهو لا يتحدث عن ردع عادي بل عن “حرب وجودية طويلة”، خطاباته أمام الكونغرس والإعلام الغربي صاغت إيران وحلفاءها كـ”محور شر شيطاني”، في مقابل “شعب الله المختار”، هذا الإطار العقائدي يجعل أي ضربة، حتى ضد منشأة نووية إيرانية، مقدسة ووقائية، وليست مجرد عمل عسكري تقليدي.

هكذا يلتقي الوعد التوراتي مع القدرة العسكرية، الأول يعطي الشرعية الرمزية، والثاني يعطي الأداة العملية.

إسرائيل في مفترق طرق

ويرى محللون ومتابعون للشأن الإسرائيلي، أن هذا الخطاب منح نتنياهو شعبية واسعة في اليمين، وصورة “الملك بيبي” الذي يحمي إسرائيل ويهيئ الخلاص، لكن على المدى البعيد، يحذر هؤلاء من أن المزج بين النبوءة والسياسة يقود إلى عزلة دولية أو صراعات إقليمية، فإسرائيل وإن بدت في ذروة قوتها، إلا أنها تعاني انقسامات داخلية وتعددية أيديولوجية وثقافية مما يؤجج الاحتجاجات الشعبية داخلها.

كما أن المجتمع الدولي بدأ يتململ من سياسات التوسع والاستيطان، مما ينذر بصدام مع حلفاء غربيين أساسيين، بهذا المعنى، “إسرائيل الكبرى” قد تتحقق كنفوذ عسكري آني، لكنها تحمل بذور أزمة إستراتيجية قد تنفجر في أي لحظة.

بين الواقع والتهويل

ويرى المحلل السياسي في الشؤون الدولية سمير سكاف، أن النقاش الدائر حول مشروع “إسرائيل الكبرى” غالباً ما يأخذ بعداً مبالغاً فيه، إذ يعتبر أن الواقع العملي يُظهر صورة مختلفة تماماً عن التصورات المنتشرة.

ويقول سكاف “لا أرى جدية بموضوع إسرائيل الكبرى كما يُطرح”، الحكومة الإسرائيلية، برأيه، “هدفها ينحصر بالسيطرة الكاملة على الأراضي الفلسطينية، أي غزة والضفة، وليس أكثر من ذلك”.

ويستند سكاف في تحليله إلى السوابق التاريخية، فحين عقدت إسرائيل اتفاق السلام مع مصر، “أعادت سيناء التي هي أكبر بخمس أو ست مرات من مساحة لبنان”، كما أنها لم تسعَ بعد اتفاق وادي عربة مع الأردن إلى التوسع في أراضيه، لذلك، يرى سكاف أن الحديث عن نية إسرائيل التمدد جغرافياً خارج فلسطين التاريخية، سواء نحو لبنان أو سوريا، يبقى “غير واضح عملياً ولا مؤشرات ملموسة تدل عليه”.

بالنسبة إليه، التهديد الحقيقي اليوم يتركز في غزة والضفة الغربية، ويضيف أن “الموضوع الأساس اليوم هو غزة، وإسرائيل تريد حسم هذا الملف بالكامل، وربما لاحقاً التوجه إلى الضفة لتعزيز السيطرة هناك، لكن خارج هذه الحدود، لا تبدو هناك إرادة فعلية للذهاب أبعد مما يُقال أو يُشاع”.

ويختم سكاف بالتشديد على أن الضجة الإعلامية حول “إسرائيل الكبرى” تعكس أكثر خطاباً أيديولوجياً وسياسياً، فيما الواقع الميداني يُظهر أن إسرائيل تحصر طموحها العملي في فلسطين التاريخية، من دون مشروع توسعي مباشر نحو أراضٍ إضافية في الدول المجاورة.

“سكرة” القوة

في المقابل، يعتبر الباحث في شؤون الأمن القومي العميد يعرب صخر، أنّ مشروع “إسرائيل الكبرى” بالعنوان العريض غير قابل للتحقق أو للحياة، سواء كفكرة جغرافية أو كواقع سياسي، وبرأيه، هذا المشروع يطفو إلى السطح في كل مرحلة تحقق فيها إسرائيل إنجازات عسكرية كبرى، فيصبح أشبه بدعاية مرتبطة بلحظة التفوق أكثر من كونه خطة واقعية قابلة للتنفيذ.

ويستعيد صخر سلسلة محطات تاريخية “بعد 1948، حين خرجت إسرائيل منتصرة في حرب النكبة، بدأ الحديث عن إسرائيل الكبرى، ثم تكرّر بعد حرب 1967 في ظل حكومة موشيه دايان وحكومة غولدا مائير، وعاد مع اجتياح لبنان عام 1982 زمن مناحيم بيغن وشارون، واليوم، بعد هجوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 وما تبعه من ضربات إسرائيلية ضد الميليشيات في لبنان وسوريا، وصولاً إلى استهدافات في إيران واليمن، نسمع مجدداً هذا الشعار، بالنسبة إليه، هذه سكرة القوة هي التي تعيد إنتاج الفكرة، لكنّها تبقى غير قابلة للتحقق.

السبب الأساس لذلك، كما يوضح، أن “إسرائيل الكبرى” جغرافياً تعني أراضي أوسع بكثير من قدرات إسرائيل الحالية، السيطرة على هذه الرقعة تحتاج إلى موارد ضخمة وسكان بعشرات الملايين، في حين أن إسرائيل نفسها لا يتجاوز سكانها بضعة ملايين، نصفهم يحمل جنسيات أخرى ويعيش في الشتات، و”اليهود تاريخياً يفضلون الانتشار في أوروبا وأميركا وروسيا وأميركا اللاتينية بدل التمركز في فلسطين، فكيف يمكن أن تتحقق دولة كبرى على مساحة هائلة بلا قاعدة سكانية كافية؟” وفق تساؤل صخر.

من وجهة نظره، الهاجس الحقيقي لإسرائيل ليس التوسع الجغرافي بل الأمن الوجودي، فهجوم السابع من أكتوبر هزّ العقيدة الإسرائيلية، ودفعها للتحوّل من إستراتيجية الحروب القصيرة والخاطفة إلى الحروب الطويلة والمتعددة الجبهات، لذلك، يركّز صخر على أن إسرائيل تسعى إلى خلق “مناطق عازلة” ومجالات حيوية في دول الطوق، سيناء مع مصر عبر كامب ديفيد، الجنوب السوري كجيب أمني، واليوم جنوب لبنان عبر فكرة “الحزام الأمني”، هذه ليست إسرائيل الكبرى، بل إسرائيل الآمنة كما يسميها.

ويضيف المتحدث “في عصر الحروب الحديثة لم تعد إسرائيل بحاجة إلى جيوش لاحتلال أراضٍ، لديها أدوات أخرى منها السيبرانية والاستخبارات والاغتيالات، وكذلك الطائرات المسيّرة والذكاء الاصطناعي، وبهذه الوسائل تستطيع السيطرة على بيئات العدو دون أن تطأ أقدام جنودها الأرض، لذا، ما تحققه إسرائيل اليوم هو مجال أمني ممتد، لا دولة جغرافية أكبر.

صخر يختم بالقول “الوحيدون الذين يتمسكون بإسرائيل الكبرى هم أصحاب النظرة الدينية التوراتية المتطرفة، التي تربطها بنهاية الزمان ومعركة “هرمجدون”، أما في المنطق الواقعي والسياسي، فهذا المشروع مستحيل، إسرائيل قد تؤسس لأمنها وتردع أعداءها وتعمّق نفوذها، لكنها لن تحقق “إسرائيل الكبرى”، غطرسة القوة تصنع الشعارات، لكن الواقع يفرض الحدود.