بين تهدئة بري وتصعيد “الحزب”: فائض مواقف لتعويض تعطّل فائض القوة

بين تهدئة بري وتصعيد “الحزب”: فائض مواقف لتعويض تعطّل فائض القوة

الكاتب: داود رمّال | المصدر: نداء الوطن
13 أيلول 2025

في المشهد اللبناني المأزوم، يبرز تعارض لافت بين مساعي رئيس مجلس النواب نبيه بري لخفض منسوب التوتر وإبقاء البلاد في دائرة الممكن عبر التركيز على الأولويّات الداخلية، وبين خطاب “حزب اللّه” الذي ينحو إلى اتجاه تصعيديّ واضح، خصوصًا من خلال إطلالات الشيخ نعيم قاسم والنائب محمد رعد، حيث يظهر “الحزب” وكأنه يعيش فائض مواقف بعد أن تعطّل فائض قوّته في ظل موازين إقليمية ودولية متغيّرة.

يقرأ بري المعادلة من زاوية حماية ما تبقى من بنى الدولة واستعادة ما يمكن إنقاذه من دورة الحياة السياسية والاقتصادية، بينما يصرّ “حزب اللّه” على ربط كلّ النقاشات الداخلية بمفهوم أوسع للأمن الوطني والمقاومة، ما يجعل الحوار حول حصرية السلاح أو تثبيت سلطة الدولة الكاملة مشروطًا بسياقات إقليميّة أوسع لا يملك لبنان وحده التحكّم بها.

شكّل خطاب الشيخ نعيم قاسم الأخير مثالًا صارخًا لهذا التوجّه، إذ أغلق الباب أمام أيّ حديث عن حصر السلاح بيد الدولة من خارج استراتيجية وطنية شاملة للأمن، محذرًا من مشروع “إسرائيل الكبرى” الذي يتجاوز حدود لبنان إلى المنطقة بأسرها. وفي الوقت الذي يقدّم فيه بري نفسه ضامنًا للحوار الداخلي ومخرجًا من نفق الفتنة، يستحضر قاسم ومواقع القرار داخل “حزب اللّه” خطابًا متشعبًا يربط الساحة اللبنانية ليس فقط بالجنوب وحدوده المشتعلة، بل أيضًا بالعدوان الإسرائيلي على قطر وبالمعادلة الإقليمية التي يزعم “الحزب” أنها تهدّد وجود الدول العربية نفسها. وهنا، يطلّ التباين في أوضح صوره بين بري الذي يضع الأولويّة في وقف الانقسام الداخلي ومنع انهيار المؤسسات، فيما يضع “حزب اللّه” الأولوية في تعزيز جبهة المواجهة مع إسرائيل على امتداد المنطقة، واضعًا الداخل اللبناني في مرتبة تابعة لهذه المواجهة.

هذا التعارض يتجاوز المستوى الخطابي ليطول جوهر الصراع السياسي حول مستقبل الدولة، وينطلق بري من أن إعادة بناء الثقة الداخلية، ولو تدريجيًا، يمكن أن تشكّل أرضية لإنقاذ الاقتصاد ومنع سقوط لبنان في عزلة دولية كاملة، فيما يطرح “حزب اللّه” مقاربة تعتبر أن الداخل لا يمكن تحصينه إلّا عبر الاستمرار في امتلاك عناصر القوة العسكرية والاحتفاظ بحق القرار الاستراتيجيّ في الحرب والسلم. وعليه، يتحوّل النقاش حول القرارات الحكومية الأخيرة، مثل تلك التي اتُخذت في آب، إلى ساحة تجاذب بين من يرى فيها خرقًا للميثاقية كـ “حزب اللّه”، ومن يتعامل معها كجزء من مسار إعادة الاعتبار لمفهوم الدولة كمنظومة قرار جامع.

لذلك؛ يمكن القول إن فائض القوّة الذي امتلكه “حزب اللّه” طوال السنوات الماضية بفعل تفوّقه العسكري والإقليميّ، بات يتآكل أمام التطوّرات المتسارعة؛ من توازن الردع المفقود على الحدود الجنوبية، إلى الانكشاف الاقتصادي الداخلي، إلى تبدّل أولويّات الحلفاء الدوليين والإقليميين. هذا التحوّل جعل “الحزب” يلجأ إلى فائض المواقف، أي التصعيد الخطابي المتواصل، لتعويض محدودية القدرة على تغيير المعادلات القائمة ميدانيًا وسياسيًا. وفي المقابل، يحاول بري أن يوفّر متنفسًا سياسيًا يقي البلاد الانزلاق إلى صدامات داخلية أو عقوبات إضافية، مدركًَا أن التهدئة الداخلية باتت مطلبًا وطنيًا ودوليًا في آن واحد.

ومع أن بري و “حزب اللّه” يتحرّكان ضمن معسكر سياسي واحد ويجمعهما تحالف تاريخي متماسك، إلّا أن الاختلاف في الأولويات يضعهما أمام معادلة دقيقة وهي أن رئيس المجلس يريد تسوية داخلية تحفظ موقع الشيعة في الدولة عبر إعادة انتظام المؤسسات، فيما يسعى “الحزب” إلى تكريس معادلة “المقاومة – الجيش – الشعب” كشرط مسبق لأي نقاش حول مستقبل الدولة. وبين هذين المسارين، يبقى المشهد اللبناني عالقًا بين مقاربة تسعى إلى إطفاء الحرائق الداخلية، وأخرى تواصل صبّ الزيت على نار المواجهة الإقليمية، في وقت لم يعد لبنان يحتمل المزيد من التوتر.

النتيجة أن البلاد تقف أمام خيارين متوازيين: إما السير خلف مقاربة بري التي تراهن على تهدئة تنقذ ما تبقى من الدولة وتفتح نافذة أمل للتسويات، أو البقاء في مدار خطاب “حزب اللّه” الذي يربط الحلول الداخلية بمعادلة مواجهة مفتوحة تتجاوز الحدود اللبنانية. وفي كلا الحالين، يبدو أن لبنان يفتقد حتى الآن القدرة على صياغة تسوية تؤمن بمبدأ الدولة كمرجعية وحيدة، ما يجعل التعارض بين بري و “حزب اللّه” انعكاسًا مباشرًا للأزمة الوجودية التي يعيشها الكيان اللبناني.