
من السّلاح إلى السّيكي لاح لاح: زمن الانحطاط..
أليس غريباً أنّ “ريتش – Reach” علي برّو، أعلى من نعيم قاسم. أي أنّ جمهور الشابّ المغمور، الذي يشتم خصوم “الحزب” على مواقع التواصل، أكبر من جمهور الأمين العامّ لـ”الحزب”. بالمشاهدات واللايكات والمشاركات… وهذا بقدر ما هو مؤسف وخطير، فهو حقيقيّ وطبيعيّ. لأنّ عقوداً من التربية الحزبيّة على الكراهية وخطاباتها، لن تنتج إلّا أجيالاً حزبيّة متعطّشة لمن يشتم. وليس لمن يحاول تقديم رواية سياسيّة.
هو زمن “الانحطاط”، بعد الهزيمة. وكلّ هزيمة تكون نتيجة للانحطاط. وكلّ انحطاط يكون استمراراً للهزيمة، في غياب النقد والمراجعة. وبدلاً من ألسنة الشعر والأدب، التي أنتجتها المقاومات الوطنيّة، تنتج الميليشيات ألسنة الشتم والسباب.
نجم الشّتائم… مكان نجم المقاومة
الشابّ الأكثر شهرةً في بيئة “الحزب” اليوم ليس مقاتلاً ضرغاماً. وليس شهيداً يتشاوف الأهل ببطولاته. وليس أبداً عالماً، كما كان أحمد زويل ذات مصر. أو كاتباً، كما كان محمود درويش في سبعينيّات فلسطين وثمانينيّات العرب وتسعينيّاتهم. ولا مغنّياً كما كان مرسيل خليفة في نهاية الألفيّة الثانية بين بيروت والعواصم المجاورة… ولا حتّى محلّلاً سياسيّاً، كما كان الحال في ريعان حسام مطر وغدي فرنسيس وفيصل عبدالساتر.
بل هو ببساطة حالة مُخيّبة ومؤسفة، شابّ كان مراسلاً تلفزيونيّاً، قبل أن يتلقّى ترقية حزبيّة أخذته من الشاشة إلى مواقع التواصل. وهناك تفوّق في مراتب الشتم والسباب. حتّى صار مكلَّفاً بتوجيه بيئة “الحزب”. وباتت فيديواته تحصل على مشاهدات أكثر من كلّ مسؤولي “الحزب”. من كبيرهم وأمينهم العامّ، إلى أصغر صغيرهم.
كيف صار السّلاح… “سيكي لاح لاح”؟
ما يميّز علي برّو أنّه مصنع إهانات، لم يسلم منها حتّى سلاح “الحزب” نفسه. إذ حوّر اسمه هرباً من خوارزميّات الذكاء الاصطناعي التي ترفض الترويج لكلمة “سلاح”. فجعله “سيكي لاح لاح”. وبات هذا الاسم “الملّيق” هو اللقب الجديد لسلاح “الحزب”. وبعدما كان السلاح يرعب من يفكّر في انتقاده، بات اسمه “خلخالاً” يرنّ تحت أقدام الناشطين. وله وقعٌ موسيقيٌّ محبّب. لكنّه وقعٌ سلبيّ.
كما لو أنّ السلاح كان “سلاحاً” قبل الهزيمة، وبات بعدها “سيكي لاح لاح”، و”أنجأ”، كما يقول اللبنانيّون. أو “يا دوب”، باللهجة المصريّة.
إهانات تطال الجميع
إهانات برّو التي ضربت “رهبة” السلاح أوّل ما ضربت، هي بحرٌ من السقطات الأخلاقيّة. ليس آخرها تعييره الزميلة مي شدياق، التي تعرّضت لمحاولة اغتيال، بما فقدته من أطرافها. فقد خاطبها: “يا نصّ مرا، يا بلاستيك. يا مقطّعة موصّلة. يا نحاس ألمنيوم، يا قطع وصل، يا كوع 10…”.
مثله فعل زميله فادي بودَيّة، الذي ردّ على النائب بولا يعقوبيان، بمعايرتها بأنّها “أرمنيّة لاجئة وقِحَة”. وقال لها: “والله كان معهم حقّ الأتراك يعملوا بالأرمن إلي متلك هيك..”.
بيئة القتل والموت… والشّتيمة
عاش بودَيّة وبرّو وجيلهما في بيئة تقدّس الموت باعتباره هدفاً، والحرب باعتبارها قدَراً. وتهتف بالموت لكلّ مختلف:
– تنادي بالموت لـ”آل سعود” على الرغم من أنّ المملكة العربية السعوديّة ساهمت في إعادة إعمار ضاحية بيروت الجنوبية وجنوب لبنان بعد حرب 2006 الإسرائيليّة وتبنّت عملية إعادة تكوين السلطة في لبنان بمشاركة “الحزب” مؤخراً.
– تدعو إلى قتل كلّ مختلف. وتحتفل باغتيال الصحافي جبران تويني والوزير بيار الجميّل.
– أحد أكبر رموز هذه البيئة احتفل على مواقع التواصل باغتيال لقمان سليم. الناشط المدنيّ الشيعي المسالم، صاحب الرأي المختلف في الطائفة الشيعيّة.
– والقائمة تطول…
ومثل أبناء جيلهما، عاشا طفولة غذّتها مشاهد القتال وحكايات “الانتصارات” التي لا تنتهي. وعاشا مراهقةً اقتنعا خلالها بأنّهما على حقّ في كلّ شيء. وأنّ حزبهما سيحكم العالم وليس المنطقة وحسب. وهلّلا للقتال في سوريا والعراق واليمن. وطبّلا لـ”تحرير القدس” و”اقتحام الجليل”… وفجأة استيقظا على هزيمة. فلم يعد أمامهما في كلّ نقاش، إلّا الشتائم والسباب.
محورٌ كاملٌ لم يعد فيه اسمٌ واحدٌ قادر على خوض نقاش، أو على إنهاء حلقة تلفزيونية أو مقابلة على منصّة رقمية، من دون شتم أعراض وتفخيخ الأجواء بالتحريض. ومثلهم زميلهم المفتي الجعفري الممتاز أحمد قبلان. الذي أقلّ بياناته، تفتح القبور، وتذكّر اللبنانيّين بـ”الذبح على الهويّة”.
الانحطاط الثّقافيّ كسبب.. ونتيجة
لا تأتي الهزيمة إلّا مصحوبة بأسبابها. والهزيمة هي شاملة أمام إسرائيل. إسرائيل بنيامين نتنياهو، التي لا تفرّق بين العراق وتونس ولبنان وسوريا وفلسطين واليمن، وليس انتهاءً بقطر. تضرب بلا هوادة.
لكن كيف وقعت علينا تلك الهزيمة؟
في الإعادة إفادة:
هزمت إسرائيل ميليشيات إيران العربية ليس بكثرة الرجال، ولا بجحافل الجيوش. فعدد سكّان إيران وسوريا والعراق واليمن ولبنان وفلسطين يزيد على 232 مليوناً، مقابل 7 ملايين إسرائيليّ.
هزمتهم إسرائيل ببضع قطع بلاستيكية وحديدية. حوّلها العلم إلى آلات دمارٍ وطائراتٍ من كلّ الأحجام. بعضها بحجم اليدين، وبعضها بحجم مبنى. لكن بالعلم، وبالعلم وحده، هزموا “جيوش إيران” وأذرعها.
من العولمة.. إلى سقوط الدّولة المركزيّة
تراجع مكانة العلم في المجتمعات المهزومة، وغياب العقل النقدي، ثمّ الاستعمار وما تلاه… صنعت قروناً من الانحطاط (1). وما نعيشه اليوم بين لبنان وسوريا ودول أخرى، ليس إلّا استمراراً لزمن الانحطاط.
وسريعاً وتجاوزاً للملل، دمّرت حركة العولمة الأطر الوطنيّة والثقافية والسياسيّة للدول (2). ثمّ جاء “الربيع العربي” ليدمّر الدول الاستبداديّة، أي المركزيّة. تلك التي أصبحت قاصرة عن توفير الحاجات الاجتماعية أو تحقيق العدالة السياسية أو إرساء الاستقرار الأمنيّ أو تعميم الرخاء الاقتصادي. فتحوّلت الجماعات المحلّية إلى بديل محتمل. فانحسر الإيمان بالدولة المركزيّة. وباتت “القبيلة”، بمعناها المذهبيّ (شيعة، سنّة، دروز…) أو القومي (أكراد)، هي البديل. هي اقتراح الحماية.
يتّفق المؤرّخون على أنّ مرحلة الانحطاط العربي بدأت مع إغلاق أبواب الاجتهاد بدءاً من القرن 9 و 10. وتكبيل التفكير النقديّ لمصلحة “التقليد”. وتغييب “العقل” والفلسفة والأسئلة الكبرى، لمصلحة النزعات الصوفية والأسئلة الصغيرة والتفاصيل (3).
تكرّس الانهيار العلميّ في القرن الـ12. فوصلنا إلى القرن الـ13 متأخّرين علميّاً، وهو ما قاد العرب إلى هزيمة عسكرية وسياسية مع اجتياح المغول بغداد وسقوط الدولة العبّاسية في عام 1258. وتحوّل العرب بعدها إلى ميدان، بعدما كانوا مركز الحكم. وانتقلت مراكز الحكم إلى أوروبا والفرس والعثمانيّين لاحقاً (4) (5) (6).
إنتاج الشّتائم… بدلاً من النّقد
الانحطاط الثقافي والعلمي، واستطراداً الثقافي والسياسي والاجتماعي، جعل هذه البيئات عاجزة عن إنتاج شاعرٍ يواجه العدوّ بلسان البلاغة كما فعل محمود درويش. أو مغنٍّ مثل مرسيل خليفة. أو بطلٍ يقدّم لبيئته سلاحاً استثنائياً تُقاتل به دفاعاً عن البلاد والعباد.
لا تنتج بيئات الميليشيات إلّا الشتائم والسباب هذه الأيّام. و”نجوم” المجتمعات المهزومة، من الداخل أوّلاً، هم باقة من أجود أنواع الألسنة الشتّامة.
هكذا نواجه الهزيمة والانحطاط. بالبذاءة، بدلاً من النقد، الذي ذهبت إليه تاريخيّاً المجتمعات المهزومة، للبحث عن إكسير الحياة. وبدلاً من وضع هاتف بلادنا على surviving mode (وضعيّة البقاء)، نضعها على Cursing mode (وضعيّة الشتائم).
“الحزب” المهزوم… يبحث عن خصوم سهلين
ختاماً، وللضرورة، فإنّ المشتومين، من معارضين سياسيّين في الداخل، أو خصومٍ من طوائف أخرى، ليسوا هم من هزم “الحزب” عسكريّاً وسياسيّاً. لكنّ “الحزب” العاجز عن التجييش ضدّ إسرائيل، لأنّه يستحيل أن يقاتلها، يبحث عن أهداف سهلة في الداخل. عن خصوم يستطيع مواجهتهم وتهديدهم. وعن أعداء يمكن أن يعبّىء جمهوره ضدّهم، دون أن يضطرّ إلى خوض الحرب بوجه من هزمه فعلاً بالعمل والعلم.
آن الأوان للانتقال من وضعيّة الشتائم إلى وضعيّة البقاء… فهل من يسمع؟
مراجع:
1- براي، توسيف أحمد، أفول الفكر الإسلامي: أسبابه وتداعياته وسبله، (2021).
2- سلامة، عماد، تراجع الدول الوطنّية بعد الربيع العربيّ وصعود الكيموقراطيّة، (2017).
3- الجابري، محمد عابد، تكوين العقل العربي، (2009) ص347: “إنّ المسلمين إنّما بدؤوا يتأخّرون حينما بدأ العقل عندهم يقدّم استقالته، حينما أخذوا يلتمسون المشروعيّة الدينية لهذه الاستقالة، في حين بدأ الأوروبيون يتقدّمون حينما بدأ العقل عندهم يستيقظ ويسائل نفسه”.
4- OSMAN, R. B. A., & ALHAJRI, M. S. ، عصرُ الانحطاط بين القبول والرفض، 234–277. https://doi.org/10.31436/attajdid.v21i41A390: “يعدّ دخول المغول بغداد وسـقوط الخلافة العباسيّة مَعْلَماً يكاد يُتّفق عليه في تغيّر الاتّجاه الفكري والعلمي والأدبي للبلاد العربية، وإن لم يكن شاملاً الأقطاب كلّها فإنّ أغلبها تأثّر به بعد أن انقـسمت الخلافة إلى دويلات متناثرة. وإن كانت التطوّرات السياسية والتاريخية الأساس في تعيين عـصر الانحطاط، فإنّ المرحلة الدائر حولها الجدل تستمرّ إلى القرن الثالث عشر الهجري بداية مـن القـرن الـسابع الهجري”.
5- الركابي، جودت، الأدب العربي من الانحدار إلى الازدهار، (1982). ص 120: “تبدأ عصور الانحطاط أو الانحدار باستيلاء المغول على بغداد عام 656 هـ – 1258م، وقضائهم على الخلافة العبّاسية فيها، وتنتهي بدخول نابليون الأوّل مصر عام 1213هـ – 1798م”.
6- أدونيس، علي أحمد سعيد، الثابت والمتحوّل، (1978)، ج3، ص53: “يرى أدونيس أنّ هذه الحقبة التي سُمّيت “الفترة المظلمة” متّفق علـــى بدايتها مع سقوط بغداد عام 1258م”.