
تسجيل العقارات في جبل لبنان: 1600 دولار للمحل و2200 للشقة… الرشوة فوق القانون!
هذه المبالغ لا تشمل الرسوم الرسمية، بل تُدفع مباشرة للسماسرة الذين يعملون بتنسيق ضمني أو حتى مباشر مع بعض الموظفين في الدوائر العقارية، التنظيم المدني، والبلديات.
على الرّغم من كل ما سمعه اللبنانيون في الأشهر القليلة الماضية من وعودٍ بـ”الإصلاح” و”محاربة الفساد”، لا يزال الواقع في الدوائر العقارية في جبل لبنان يقول العكس تمامًا.
نفس المماطلة، نفس الابتزاز، نفس الحاجة إلى “واسطة” أو “سمسار”… والأهم: نفس المواطن، يُذلّ ويدفع من جيبه ليحصل على حقّه.
من تسجيل محلّ تجاري إلى شقة سكنية، يروي مواطنان تجربتهما في دوائر يُفترض أنّها “رسمية”، لكنّها في الواقع باتت أشبه بسوق سوداء مُشرّعة الأبواب.
بصوتٍ متعبٍ، يحمل نبرة رجل أنهكه الانتظار والخيبة، يروي محمود.س وهو مواطن من إحدى بلدات قضاء جبل لبنان حكايته مع رحلة تسجيل محلٍ تجاري ورثه عن والده قبل أكثر من عشرين عامًا.
“المحل موجود منذ عقود، ملكي بالكامل، لكنني لم أكن أعلم أن محاولة تسجيله رسميًّا ستفتح أبواب جحيم لم أتصوّرها يومًا”.
كان محمود يظنّ، ولو لوهلة، أنّ الأمور ستكون مختلفةً هذه المرّة. فالحكومة التي رفعت شعار “الإصلاح ومكافحة الفساد”، والتي وعدت اللبنانيين بـ”اجتثاث المفسدين من الإدارات”، أوحت له بأنّ التسجيل العقاري قد أصبح أكثر سهولة وشفافية.
“قلت لنفسي: الدولة تغيّرت، الإصلاح بدأ، وربما انتهى زمن الرشوة والواسطة”… لكن ما وجده كان نسخةً أكثر وقاحةً من النظام القديم نفسه، مموّهةً بخطاب جديد.
ما إن دخل محمود دهاليز الإدارة العقارية، حتى أدرك أنّ لا شيء تغيّر فعليًا. فالوعود بالإصلاح تبخّرت عند أول توقيع مفقود، والفساد لم يُجتثّ، بل أعاد تنظيم نفسه ووسّع شبكاته.
بخطى واثقة بدأ محمود إجراءاته، ظنًّا منه أنّ “القانون معه”، لكن سرعان ما وجد نفسه تائهًا في دهاليز إداريةٍ مظلمةٍ، حيث الورقة “الناقصة” لا تُكشف إلّا بعد تقديم عشر أوراق، والتوقيع “الأساسي” دائمًا مفقود، والموظّف المعني إمّا “في إجازة” أو “مشغول في اجتماع”.
ويقول محمود: “في كلّ مرة كنت أذهب فيها إلى الدائرة العقارية، أخرج أكثر حيرةً من المرة السابقة. الأوراق تُطلب على مراحل، كأنّها لعبة تضييع وقت. كلّ خطوة تفتح على بابٍ جديدٍ، وكلّ باب خلفه موظف يقول: ليس عندي، راجع الزميل”.
لكنّ محمود، كغيره من المواطنين، لم يكن يملك ترف الوقت ولا أعصابًا من فولاذ. بعد أسابيع من المماطلة، همس له أحد العاملين بنصيحة: “إذهب إلى فلان… هو يعرف كيف تُنهى الأمور”.
ذلك “الفلان” لم يكن إلّا سمسارًا معتادًا على التعامل مع المعاملات “المتعثّرة”، يقف عند مفترق الطرق بين المواطن والإدارة.
ويقول: “طلب مني 1600 دولار نقدًا، وقال لي بوضوح: هذا السعر الأساسي، وقد يزيد إذا اضطررنا إلى ‘تحريك الملف داخل بعض المكاتب. لم أملك القدرة على الرفض، لا لأنني أريد تجاوز القانون، بل لأنّني أردت فقط إنهاء معاملة عادلة من دون أن أُذلّ أكثر”.
2200 دولار لتسجيل شقّة!
ندى.ك، موظفة في شركة خاصة، كانت تظن أنّها حققت إنجاز حياتها حين استطاعت، خلال الأزمة، شراء شقة صغيرة في منطقة فرن الشباك بعد انخفاض الأسعار نتيجة انهيار الليرة اللبنانية. لكنّها سرعان ما أدركت أنّ الشراء كان الجزء الأسهل… والمعركة الحقيقية بدأت بعدها.
وتقول: “كلّ ما كنت أريده هو تسجيل الشقة رسميًا باسمي. المستندات كاملة، البيع موثّق، والملكية واضحة. لكن ما واجهته في الدوائر العقارية كان أقرب إلى سلسلة أفخاخ إدارية مبرمجة لتعجيز المواطن”.
ندى اصطدمت بشبكةٍ متداخلةٍ من العراقيل: ورقة يُطلب إحضارها ثم يتبيّن أنّها “غير ضرورية”، توقيع مدير لا يُنجَز إلا بعد “مراجعة لجنة”، التي لا تجتمع إلّا “مرتين في الشهر”، خبير عقاري غائب، يُقال إنّه “في إجازة”، ولا أحد يعرف متى يعود.
وتتابع ندى: “شعرت بأنني أدور في حلقة مفرغة. مع كل محاولة جديدة، كنت أكتشف عائقًا جديدًا، كأنّ هناك من يتعمّد استنزافي”.
وفي لحظة انكسار، نصحها أحد الأصدقاء باللجوء إلى “سمسار معروف” في المنطقة، يملك مفاتيح الأبواب المغلقة. تواصلت معه، فقال ببساطة: “المعاملة تُنجز خلال شهر، مقابل 2200 دولار. لم يكن لديّ خيار. وافقت على دفع المبلغ لأتمكّن من تسجيل شقتي”.
دهاليز الإدارة… حيث تُباع الكرامة بالتقسيط
قصّتا محمود وندى ليستا استثناءً، بل نموذج لما أصبح عليه واقع التسجيل العقاري في جبل لبنان.
في هذه الدهاليز، تُختلق العراقيل بذكاء: لا يُطلب منك الرشوة مباشرةً، بل تُنهك حتى تدفعها طوعًا، يُختبَر صبرك حتى تنهار، ثم تُعرض عليك،”الطريق السريع”، عبر سمسار لديه علاقات بالموظفين، وربما يتقاسم الأرباح معهم، تتعطّل المعاملات ليس بسبب النقص، بل لأنّ السير الطبيعي يفقد السماسرة مصادر دخلهم.
هذا النظام القائم على الابتزاز المقنّع، تُغذّيه ثقافة “الواسطة” و”التسهيل مقابل الدفع”، وتحميه شبكات من الموظفين، وبعضهم ليسوا إلا أدوات في يد كبار النفوذ.
تسعيرة غير رسمية لكلّ معاملة… ومواطنون رهائن
هذه الحالات ليست معزولةً. في مختلف أقضية جبل لبنان، ينتشر ما يمكن وصفه بـ”السوق السوداء” لتسجيل العقارات، إذ تحوّلت المعاملات العقارية إلى مجال واسع للسمسرة والابتزاز، وسط صمت رسمي مريب.
ووفقًا لمصادر مطلعة على الملف، هناك ما يشبه “التسعيرة” غير الرسمية لكلّ معاملة، تسجيل محل تجاري: ما بين 1000 و2000 دولار، تسجيل شقة: ما بين 1500 و3000 دولار، معاملات الإفراز أو نقل الملكية: قد تصل إلى 5000 دولار.
واللافت أنّ هذه المبالغ لا تشمل الرسوم الرسمية، بل تُدفع مباشرة للسماسرة الذين يعملون بتنسيق ضمني أو حتى مباشر مع بعض الموظفين في الدوائر العقارية، التنظيم المدني، والبلديات.
وعود الإصلاح… في أدراج النسيان
على الرغم من عشرات التصريحات الحكومية حول “مكافحة الفساد” و”رقمنة الإدارة”، لا تزال الدوائر العقارية تعمل وفق أساليب بدائية تعود إلى عقودٍ خلت. لا منصة إلكترونية فعّالة للتسجيل، لا نافذة موحّدة للتعامل، لا جهة رقابية مستقلّة تتابع عمل الموظفين أو السماسرة، ولا محاسبة فعلية لأي مسؤول عن هذا الفساد المزمن، بل إنّ بعض البلديات متورّطة، إمّا عبر تسهيل هذه المعاملات للسماسرة، أو من خلال فرض “أتعاب خاصة” لا نصّ قانوني لها.
ما يجري اليوم في جبل لبنان من فساد عقاري ليس مجرّد تفاصيل إدارية، بل هو انعكاس لانهيار منظومة كاملة: منظومة تحوّلت فيها حقوق المواطنين إلى خدماتٍ تشترى وتباع، وأصبح فيها الموظف العام شريكًا في الاستغلال، أو عاجزًا أمام نفوذ السماسرة.
طالما لا توجد إرادة سياسية حقيقية لضبط هذا الملف، سيبقى المواطن رهينة “التسهيل” مقابل المال، وستبقى “الملكية” في لبنان… مشروطةً بالرشوة.