
الحدود المعلّقة: قصة الترسيم المؤجّل بين لبنان وسوريا
تعود أزمة الحدود اللبنانية- السورية إلى الواجهة. هذه المرة، ليس عبر أصوات المدافع أو معابر التهريب للاجئين والبضائع والسلاح؛ بل عبر بيان رسمي لوزارة الداخلية السورية، وآخر بالنفي من حزب الله.
ما أعلنته سلطات سوريا، هو القبض على خلية مسلحة، قالت إنها تابعة لحزب الله، وتعمل في بلدتي سعسع وكناكر بريف دمشق الغربي، في حين نفت العلاقات الإعلامية في حزب الله صحة الأنباء نفياً قاطعاً.
وراء هذا السجال الذي يتجدد بين فترة وأخرى، معضلة أكبر: حدود غير مرسّمة، وواقع غير مضبوط، وشكوك متبادلة تتجدّد كلما بدا أن العلاقة بين بيروت ودمشق قد دخلت مسار الترميم.
الحدود على القائمة
معضلة الحدود اللبنانية السورية تندرج في قائمة أكثر من أجندة مرتبطة بلبنان، وترى فيها أطراف عدّة مفتاح تنظيم العلاقة، وبناء مستقبلها على أسس واضحة بين لبنان وسوريا.
في مطلع أيلول الجاري، كان الاجتماع الأول بين اللجنتين اللبنانية والسورية في بيروت. اجتمع الوفد بنائب رئيس الحكومة طارق متري، وناقش ملفات عالقة: السجناء، المفقودين، النازحين، لكن بقي الملف الأكثر حساسية، ترسيم الحدود.
كذلك، في 19 حزيران الماضي، حين كانت “الورقة الأميركية” بيد الموفد توم باراك في بيروت، ناقش مع المسؤولين اللبنانيين حينها سُبل تحسين العلاقة مع دمشق على المستويات المختلفة: الأمنية، والسياسية، وضبط الحدود، وصولاً إلى ترسيم الحدود.
اليوم، وبعد مصادقة الحكومة اللبنانية على الورقة الأميركية، وترقّب تنفيذ خطة الجيش اللبناني لنزع السلاح، وما تلاها من تعميق الأزمة بين حزب الله والحكومة، يتردّد دائمًا أن لبنان والجانب الأميركي ينتظران موقفًا سوريًا رسميًا من الورقة الأميركية.
والواقع أن الورقة الأميركية شملت فصلين يرتبطان ببيروت ودمشق، وفي طليعتها: إطلاق مبادرة لترسيم الحدود البرية والبحرية والمناطق الاقتصادية الخالصة بين البلدين، عبر تشكيل لجنة تضم ممثلين عن لبنان وسوريا. إضافة إلى خبراء خرائط من الأمم المتحدة، وتكون بوساطة وإشراف الولايات المتحدة، وفرنسا، والمملكة العربية السعودية، والأمم المتحدة.
هذا الأمر يذكّر بحدثين سابقين:
في آذار 2025، وقّع وزيرا الدفاع اللبناني والسوري اتفاقًا في جدة برعاية سعودية، لتشكيل لجان قانونية وفنية مشتركة لبحث ترسيم الحدود وتعزيز التنسيق الأمني.
ثم، في نيسان الماضي، زار رئيس الحكومة نواف سلام لأول مرة دمشق، حيث التقى الرئيس السوري أحمد الشرع، واتفقا على تشكيل لجنة وزارية لمتابعة الملفات المشتركة، بما في ذلك ترسيم الحدود البرية والبحرية.
عقبات الترسيم
في الواقع، ترسيم الحدود بين لبنان وسوريا ليس تفصيلًا تقنيًا؛ بل معضلة معلّقة تحمل أبعادًا تاريخية ودبلوماسية وسياسية واقتصادية، وتعود إلى ما قبل عهد الاستقلال عن الانتداب الفرنسي، في البلدين اللذين تربطهما علاقة شديدة التعقيد.
فمنذ الاستقلال، لم تُرسم الحدود على نحوٍ نهائي، لا براً ولا بحراً. وبرغم أن البلدين وقّعا في العام 2008 على تشكيل لجنة لترسيمها، فإنها لم تُحرز أي تقدم جدي، لا سيما بعد الحرب السورية في العام 2011.
تاريخياً، يعود التداخل الحدودي بين لبنان وسوريا إلى ما قبل عهد الاستقلال عن الانتداب الفرنسي (1920–1943)، حين كانا منطقة انتدابية واحدة تخضع لحكم المفوّض السامي الفرنسي.
ووفق مراجع عدّة، فإن فرنسا لم تحدد النقاط التي تبدأ منها، وتنتهي عندها، حدود كل من لبنان وسوريا.
وعلى مرّ عقود، لم يأخذ الجانبان، اللبناني والسوري، مبادرة جدية لترسيم الحدود البحرية والبرية، علمًا أن الحدود محددة في الدستورين اللبناني والسوري، لكنها غير مرسّمة على الأرض.
المنعطف البارز كان في العام 2011، حين أصدرت الحكومة اللبنانية، في عهد رئيسها الأسبق فؤاد السنيورة، المرسوم رقم 6433، حيث جرى ترسيم الحدود البحرية الجنوبية مع إسرائيل، والشمالية مع سوريا، والغربية مع قبرص. لكنه اصطدم بالترسيم الذي حدّدته سلطات النظام السوري السابق، خصوصًا أن سوريا ليست عضوًا في اتفاقية قانون البحار (1982) التي يلتزم بها لبنان، وهذا ما خلق منطقة بحرية متنازعًا عليها بين البلدين.
شبعا وقرىً أخرى
يرتبط ترسيم الحدود بين سوريا ولبنان بمشكلة التداخل الجغرافي والديموغرافي. فهناك عشرات القرى والبلدات الحدودية، التي يتبع بعضها للبنان إداريًا، لكن سكانها يحملون الجنسية السورية، والعكس أيضًا.
وعلى امتداد نحو 450 كيلومترًا من الحدود البرية للبنان مع فلسطين المحتلة وسوريا، من الناقورة جنوبًا إلى العريضة شمالًا، تُقدّر الحدود اللبنانية السورية بنحو 375 كيلومترًا، تحوّلت على مدار عقود إلى معابر مفتوحة غير شرعية، متحرّكة ومتنقّلة.
ولعل من أبرز العقد في معضلة ترسيم الحدود البرية بين لبنان وسوريا، هي معضلة مزارع شبعا المحتلة. ففي حين تعتبرها إسرائيل أرضًا سورية، تصرّ بيروت على أنها لبنانية، وتطالب منذ سنوات بتثبيت حقّها فيها. لكن الترسيم قد يكون شبه مستحيل، ما دامت دمشق لم تُعطِ موقفًا واضحًا بلبنانية مزارع شبعا.
وللتذكير، فإن القرار الأممي 1701 سبق أن طالب بإيجاد حلّ لقضية مزارع شبعا، وكلف خبير خطوط لترسيم حدودها مع هضبة الجولان السورية. لكن النظام السوري السابق رفض الترسيم البري، وبدا لاحقًا أن جميع الأطراف، بما في ذلك إسرائيل، لا تُبدي أيّة رغبة أو حماسة لترسيم هذه المنطقة.
وفي الشرق مثلًا، تمتدّ التداخلات من القموعة، العديسة، بعلبك – الهرمل، إلى القرى المتشابكة سكانًا وهوية، مثل منطقة القصر، حيث يتنقل السكان بين البلدين كأن الحدود غير موجودة أصلًا.
في وادي خالد في الشمال أيضًا، تبدو القصة نموذجًا مصغرًا عن فوضى الحدود، التي تُعدّ مجرد فكرة غير واقعية تعوم فوق الخريطة.
الملف المعلّق
هكذا إذن، رغم التقدم المحدود الذي أحرز في إعادة فتح قنوات الحوار بين بيروت ودمشق، يبقى ملف ترسيم الحدود معلقاً عند تقاطعات معقّدة: قانونية، أمنية، ديموغرافية، وسياسية، وإقليمية ومع إسرائيل.
فلا خرائط نهائية، ولا موقف سوري واضح من مزارع شبعا، ولا معالجة جدّية للتداخل الحدودي في المناطق الشرقية والشمالية.
كما أن محاولات الترسيم السابقة، لم تتحوّل إلى آليات تنفيذ فعلية. وكذلك الورقة الأميركية الأخيرة، لا تزال تنتظر تجاوبًا رسميًا من دمشق.
حتى إشعار آخر، قد يظل الترسيم بندًا مؤجلاً على طاولة العلاقات اللبنانية- السورية من جهةٍ أولى، وما تريده إسرائيل وتسعى إلى فرضه من جهةٍ ثانية، مرهونًا بتفاهمات سياسية وثنائية وإقليمية، لم تتوفر شروطها بعد.