هل بدأ عصر تفكيك الـ”كارتلات” اللبنانية؟

هل بدأ عصر تفكيك الـ”كارتلات” اللبنانية؟

الكاتب: طوني بولس | المصدر: اندبندنت عربية
15 أيلول 2025

لبنان يستحق دولة، لا دويلة. يستحق اقتصاداً منتجاً، لا مرتهناً. والفرصة قائمة، شرط ألا يتراجع أحد أمام تهديد أو مساومة. فليكن الإصلاح هذه المرة طريقاً بلا عودة.

منذ اتفاق الطائف وحتى اليوم تعاقبت حكومات لبنان على إدارة الدولة من دون أن يغادر أي فريق سياسي موقعه من السلطة. الطبقة نفسها والوجوه والعقليات ذاتها حكمت البلاد أكثر من ثلاثة عقود. ولم يحاسب أحد ولم يسأل أحد عن انهيار الدولة أو سرقة المال العام أو تدمير المؤسسات. هؤلاء السياسيون ليسوا مجرد شركاء صامتين في ما جرى، بل هم المسؤولون المباشرون عن بناء منظومة المافيا – الميليشيات التي تحكم لبنان حتى الآن.

لقد أداروا “كارتلات” النفط والاتصالات والأسمنت والاستيراد والكهرباء والنفايات، وحولوها إلى صناديق مالية خاصة تدر مليارات الدولارات التي توزع بين الأحزاب والزعامات. وهذه الـ”كارتلات” لم تكُن اقتصادية فقط، بل إنها أذرع سياسية وإعلامية وأمنية متشابكة، محمية بالسلاح غير الشرعي، وقادرة على تعطيل أية محاولة إصلاح. من هنا فإن الحديث عن الإصلاح لا يكتمل ما لم يطرح السؤال، من يحاسب هؤلاء الذين حولوا الدولة إلى مصدر تمويل شخصي منذ أكثر من 30 عاماً؟

ولم يعُد خافياً أن كل قطاع في لبنان تحول إلى “كارتل” متماسك، فاستيراد النفط وتوزيعه محتكر من قلة نافذة، والاتصالات والإنترنت تسيطر عليهما شبكات رسمية وغير شرعية مرتبطة مباشرة بالأحزاب، والأسمنت والاستيراد الخارجي بيد شركات محمية سياسياً. أما الكهرباء والنفايات فصارتا منجمي ذهب يغذيان المنظومة. وهذه الـ”كارتلات” صنعت بنية تحتية متينة لتحالف الميليشيات والمافيا، فأصبح أي اختراق إصلاحي مغامرة خطرة.

“ستارلينك” تكسر الاحتكار

أول شرخ في هذا الجدار جاء من قطاع الاتصالات. قرار مجلس الوزراء بمنح ترخيص لشركة “ستارلينك” التابعة لإيلون ماسك لم يكن مجرد اتفاق تجاري، بل خطوة سياسية وإصلاحية بامتياز. واستغرقت المفاوضات ستة أشهر وانتهت بتأسيس شركة محلية تدير المشروع داخل لبنان.

المعارضة لم تتأخر، الـ”كارتلات” التي تحتكر الإنترنت عبر الشبكات المتهالكة خافت من خسارة أرباحها، وبعض الأجهزة الأمنية رفعت فزاعة “الانكشاف أمام إسرائيل”. لكن هذه الذرائع سقطت بعد الاتفاق المباشر بين الرئيس جوزاف عون وإيلون ماسك. والنتيجة لبنان حصل على 25 في المئة من الإيرادات، وهي النسبة الأعلى عالمياً، إضافة إلى بروتوكول رقابة يوازن بين متطلبات الأمن وحماية الحريات.

والخدمة ستبدأ في الشركات بأسعار تبدأ من 100 دولار شهرياً، على أن تتوسع لاحقاً للأفراد. لكن الأهم أن “ستارلينك” لا تعني فقط إنترنت أسرع، بل تحرير قطاع كامل من هيمنة المافيا وإعادة ربط لبنان بالعالم الرقمي وتوفير بيئة جاذبة للاستثمار والتعليم عن بعد والعمل الحر. إنها كسر لنموذج الاحتكار الذي كبل لبنان لعقود.

في موازاة ذلك، جاء التحرك على المستوى المالي. وعلى رغم قصر فترة ولايته نجح حاكم “مصرف لبنان” كريم سعيد في تحقيق اختراق حقيقي. وكالة “ستاندرد أند بورز” رفعت التصنيف الائتماني للبنان إلى “سي سي سي” CCC مع نظرة مستقبلية مستقرة، في خطوة ربطتها مباشرة بالإصلاحات الجارية ضمن السياسة النقدية.

والمؤشرات الأولية لم تتأخر:

تقارير من تجار التجزئة عن زيادة في المبيعات.

مستوردون أبلغوا عن ارتفاع حاد في الإيرادات.

مؤشرات على نمو محتمل في الناتج المحلي الإجمالي عام 2025، مدفوعاً بالسياحة والإيرادات الخارجية.

ويعكس هذا بداية عودة الثقة التدريجية بالاقتصاد. فالحاكم، المكلف رسمياً السياسة النقدية، بات واحداً من أبرز الشخصيات التي تحاول حماية الاقتصاد والنهوض به.

مواجهة “القرض الحسن”

لكن الحاكم يعرف أن الإصلاح المالي لا يكتمل من دون رفع لبنان من القائمة الرمادية لمجموعة العمل المالي (FATF)، وهذا الشرط يمر حتماً عبر مواجهة “جمعية القرض الحسن”، الذراع المالية لـ”حزب الله”، فما دامت هذه الجمعية قائمة سيبقى لبنان رهينة وستظل المساعدات الدولية مجمدة وستبقى إعادة الإعمار مؤجلة.

وزارة الداخلية، المسؤولة عن التراخيص للجمعيات، تفضل الصمت، لكن الحاكم اختار المواجهة الصامتة – الفاعلة. وخطواته الجريئة تمهد لإغلاق “القرض الحسن” وفتح الباب أمام تدفق المساعدات. فهذه الأموال ليست ترفاً، بل الوسيلة الوحيدة لإعادة إعمار الأحياء والبنى التحتية التي دمرها “حزب الله” في مواجهاته الإقليمية.

لهذا جاء التعاقد مع شركة “كاي 2 إنتغريتي” K2 Integrity، الرائدة عالمياً في مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. الشركة، صاحبة السمعة المرموقة في الشرق الأوسط، تحظى بثقة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومجموعة العمل المالي.

والاتفاق مع “كاي2” ليس مراجعة شكلية، بل رسم خريطة طريق لإدارة الاقتصاد النقدي والتخطيط للخطوات اللاحقة. وهذه المبادرة لاقت اعترافاً مباشراً من كل الهيئات الدولية المعنية بإعادة إعمار لبنان، مما يفتح أفقاً جديداً لإعادة إدماج البلد في المنظومة المالية العالمية.

بطبيعة الحال، خرجت أصوات معترضة من “حزب الله” والمستفيدين من النظام الموازي. لكن هذه الاعتراضات ليست إلا محاولة يائسة للدفاع عن مصالح ضيقة مهددة بالسقوط.

اليوم، لبنان يقف على مفترق طرق. تحالف المافيا والسلاح الذي حكم لعقود بدأ يتصدع، و”ستارلينك” كسرت احتكار الاتصالات والحاكم الجديد فتح معركة الإصلاح المالي و”القرض الحسن” باتت في مرمى المواجهة.

هذه ليست انتصارات نهائية بعد، لكنها دلائل أن تفكيك الـ”كارتلات” ممكن. فسقوط “كارتل” واحد يفتح الباب لآخرين. بصيص الأمل موجود والفرصة قائمة لبناء دولة حقيقية.

لكن النجاح لا يبنى بقرار فردي أو خطوة معزولة. فالمطلوب دعم شعبي واسع وإصرار سياسي ورقابة إعلامية لا تساوم. أيها اللبنانيون، أنتم أمام خيار واضح إما أن تبقوا رهائن المافيا والميليشيات، أو أن تدعموا مسار الإصلاح حتى النهاية.

لبنان يستحق دولة، لا دويلة. يستحق اقتصاداً منتجاً، لا مرتهناً. الفرصة قائمة، شرط ألا يتراجع أحد أمام تهديد أو مساومة. فليكن الإصلاح هذه المرة طريقاً بلا عودة.