
بالأرقام: فجوة مائية مخيفة تضرب المخزون الاستراتيجي للمياه تحت الأرض
لبنان خزان مياه الشرق الأوسط: هل انتهى إلى غير رجعة؟
السؤال مشروع في ظلّ تحدّيات مائية متزايدة تتمثل في شحّ الموارد وتدهور النوعية. وهي نتيجة ما أوصلنا إليه المسؤولون بسبب ممارساتهم الفاضحة على مدى سنوات، وفي ظلّ الفساد المستشري أمام أعينهم وهم يتفرجون وكأنهم شهود زور على الكارثة.
ويكشف تقرير للمصلحة الوطنية لنهر الليطاني صدر مؤخرًا وينشر للمرة الأولى، عن واقع خطير في إطار تقييم الواقع المائي استنادًا إلى الميزان المائي العام وحجم الموارد المتاحة والمستخدَمة.
ويشير التقرير إلى أنّ التلوّث وسوء الإدارة، جعلا حجم المياه الصالحة للاستعمال أقلّ بكثير من المياه المتاحة فعليًا. هذه المفارقة تنعكس في حقيقة أن المياه المستخدمة حاليًا لا تتجاوز 21 % فقط من إجمالي الموارد المائية المتاحة نتيجة التلوّث وضعف البنية التحتية.
ويكشف تقرير مصلحة الليطاني عن أرقام لافتة توضح الميزان المائي الحالي. حجم الموارد المائية المتجدّدة القابلة للاستثمار سنويًا يبلغ حوالى 3.258 مليارات متر مكعب في سنة ذات معدّل هطولات وسطي. هذا هو الحجم النظري للمياه التي يمكن للبنان استغلالها سنويًا إذا توفّرت البنى التحتية والإدارة اللازمة. بالمقابل، قدّرت الحاجات السنوية للمياه بحوالى 1.935 مليار متر مكعب في عام 2020 تشمل مياه الشفة والاستخدامات المنزلية والريّ والصناعة. بمعنى آخر، من حيث الكمّ البحت، يبدو أن الموارد المتجدّدة كافية لتغطية الطلب السنوي الحالي وزيادة. لكن المشكلة تكمن في الفجوة بين الموارد النظرية والاستعمال الفعلي نتيجة العوائق على أرض الواقع.
الموارد المتاحة مقابل الاستخدام: الواقع بالأرقام
وفقًا للتقرير، المياه المتوفرة فعليًا للاستخدام حاليًا لا تتجاوز 700 مليون متر مكعب سنويًا رغم وجود المليارات من المياه المتجدّدة. هذا الرقم يمثل حوالى 21.5 % فقط من إجمالي الموارد المائية المتاحة عام 2020. أي أن قرابة أربعة أخماس المياه المتجدّدة تضيع أو تُهدر بسبب التلوّث وعدم الاستثمار الكافي في البنية التحتية. على سبيل المثال، تشير البيانات التفصيلية إلى أن قطاع الريّ يستهلك الحصّة الكبرى من المياه المستخدمة (حوالى 1.1 مليار م³ سنة 2020 من أصل 1.935 مليار م³ إجمالي الطلب، أي نحو 57 %)، يلي ذلك الاستخدام المنزلي بحوالى 0.75 مليار م³ (39 %) ثم الصناعة (85 مليون م³ أي 4 % فقط) . هذه التركيبة القطاعية للطلب تُبرز أهمية كفاءة استخدام المياه في الزراعة تحديدًا، حيث تُهدَر كميات كبيرة عبر أساليب الريّ التقليدية. أضف إلى ذلك، معدّلات الهدر في شبكات التوزيع بسبب تهالك البنية التحتية تصل إلى حوالى 50 % في بعض المناطق، ما يعني أن نصف كميات المياه الموزَّعة قد تتسرّب وتضيع قبل وصولها إلى المستهلك. هذه الأرقام تؤكّد أن المشكلة ليست في شحّ المطر وحسب، بل في ضعف الإدارة والاستثمار، حيث تُفقد كميات ضخمة من المياه الممكن استعمالها.
العجز المائيّ وتصاعد المخاطر
في ظلّ استمرار النهج الحالي، يُحذّر التقرير من تزايد العجز المائي السنوي خلال السنوات المقبلة. فمع الارتفاع في الطلب السكاني والزراعي، تُقدَّر حاجات المياه بحوالى 2.225 مليار م³ عام 2025 لتصل إلى 2.57 مليار م³ عام 2030. في المقابل، إذا بقيت قدراتنا المائية المُستثمرة محدودة ولم تُنفَّذ مشاريع تطوير الموارد، قد ترتفع الكميات المتاحة فعليًا للاستخدام إلى نحو 775 مليون م³ في 2025 و 840 مليون م³ فقط في 2030 . هذا الارتفاع الطفيف في العرض (من ~0.7 إلى ~0.84 مليار م³ خلال عقد) لن يواكب الارتفاع الأكبر في الطلب، ما يعني اتساع فجوة العجز المائي سنة بعد سنة. عمليًا، يشير التقرير إلى أن العجز السنوي (في سنة مناخية معتدلة) سيزداد من نحو 1.235 مليار م³ عام 2020 إلى 1.45 مليار م³ عام 2025 ثم 1.73 مليار م³ بحلول 2030 . أما في حالة تعرض البلاد لسنة جفاف شديدة (مقدّرة إحصائيًا بنسبة حدوث واحدة كل عشر سنوات)، فإن فجوة العجز تكون أكبر لتبلغ 1.93 مليار م³ عام 2030 . هذه الأرقام تعني أن أكثر من ثلثي الطلب على المياه قد يبقى غير ملبّى في غضون سنوات قليلة إن لم تتخذ إجراءات عاجلة.
مخاطر تدق أبواب المخزون الاستراتيجي للمياه تحت الأرض
إن غياب الاستثمار في البنية التحتية المائية وسوء الإدارة الحالية لا يؤدي فقط إلى عجز بالأرقام، بل يترجم إلى مخاطر مستقبلية ملموسة. من أبرز هذه المخاطر الاستنزاف العشوائي للمياه الجوفية لسدّ العجز؛ إذ يلجأ الأفراد والمزارعون إلى حفر آبار غير مرخَّصة وضخّ المياه الجوفية بشكل غير منتظم، ما يهدّد باستنزاف المخزون الاستراتيجي للمياه تحت الأرض. كذلك يُقدم البعض على جرّ المياه من الينابيع بطرق غير قانونية أو تركيب مضخات على مجاري الأنهار لسحب كميات إضافية، في ظلّ غياب الرقابة الفعّالة. الأخطر من ذلك، بدء استخدام المياه المبتذلة (غير المعالجة) في الري أحيانًا لتعويض النقص، ما يشكل تهديدًا للصحة العامة ولنوعية المحاصيل والتربة. وإلى جانب المخاطر البيئية والصحية، هناك مخاطر اقتصادية واجتماعية. فقد تتراجع الإنتاجية الزراعية بشكل حاد نتيجة نقص مياه الري أو استخدامها بجودة متدنية، ما يهدّد الأمن الغذائي. كذلك سيواجه السكان شحًّا متزايدًا في مياه الشرب ما يضطرهم للاعتماد أكثر فأكثر على صهاريج المياه الخاصة المكلفة أو المياه المعبّأة، وهو ما يرهق كاهل الأسر الفقيرة. ولا يُستبعد أيضًا نشوب توترات اجتماعية أو نزاعات محلية على مياه الري والشرب في القرى والمناطق التي تعاني شحًا شديدًا.
توصيات ختامية قابلة للتطبيق
في ضوء ما سبق من حقائق علمية ومؤشرات مقلقة، تبرز الحاجة الملحّة إلى استراتيجية وطنية شاملة تنقذ قطاع المياه في لبنان. وفي ما يلي حزمة مقترحات يمكن لصنّاع القرار تبنّيها بشكل فوري:
• تعزيز البنية التحتية المائية وزيادة السعة التخزينية: تنفيذ المشاريع المؤجلة في المخطط الاستراتيجي للمياه دون تأخير، وعلى رأسها بناء سدود وخزانات جديدة بسعة إجمالية تقارب 680 مليون م³. كذلك، ينبغي الاستثمار في استخراج مستدام للمياه الجوفية (في حدود 600 مليون م³ سنويًا حسب التقديرات) عبر حفر آبار عميقة مدروسة وربطها بالشبكة بشكل منظم.
• تطوير نظم المعالجة وحماية نوعية المياه: الإسراع في إنشاء وتشغيل محطات معالجة مياه الصرف الصحي في كافة المناطق الحرجة، ولا سيّما حوض الليطاني، للحدّ من تلويث الأنهار والمياه الجوفية. إن معالجة مياه الصرف وإعادة استخدامها لريّ المزروعات غير الغذائية يمكن أن توفر كميات إضافية.
• رفع كفاءة التوزيع وتقليل الهدر: إطلاق ورشة وطنية عاجلة لصيانة وتأهيل شبكات المياه. يقدّر أن نحو نصف المياه الموزعة تهدر بسبب التسربات في بعض المناطق، وبالتالي فإن إصلاح الشبكات وتركيب أنظمة مراقبة التسرب يمكن أن يزيد المتوفر من المياه دون الحاجة لمصادر جديدة.
• إعادة هيكلة إدارة قطاع المياه وتحسين التنسيق بين المؤسسات المعنية وإنشاء قاعدة بيانات مائية وطنية موحّدة. ولا بدّ من تحديث الأطر القانونية وتشريع يفرض حصصًا عادلة بين القطاعات أوقات الشح، ويمنع الحفر الجائر للآبار، ويجرّم التعديات على الشبكات والمجاري المائية.
• ترشيد استهلاك المياه: إطلاق برامج توعية وطنية لتحفيز ترشيد الاستهلاك المنزلي. وفي قطاع الزراعة، تشجيع الانتقال إلى تقنيات ريّ حديثة (كالري بالتنقيط والري الذكي)، وتقديم حوافز للمزارعين لزراعة أصناف أقل استهلاكًا للمياه في المناطق الأكثر جفافًا. كذلك، دراسة هيكلة تعرفة المياه مع التسعير التصاعدي المبني على كمية الاستهلاك لكبح الهدر.
لبنان أمام الفرصة الأخيرة وإلّا…
في الختام، يؤكد التحليل العلمي المستند إلى تقرير مصلحة الليطاني أن لبنان لا يعاني ندرة مائية بقدر ما يعاني سوء إدارة واستثمار لموارده المتاحة. الأرقام تظهر أن المياه موجودة لكنها لا تصل إلى حيث يجب بالكمية والنوعية المطلوبتين. وعليه، فإن نافذة الفرصة لا تزال مفتوحة أمام صنّاع القرار لتجنب تفاقم الأزمة. فالقرارات التي تُتخذ اليوم في قطاع المياه سترسم ملامح المستقبل لعقود مقبلة، فإما تصحّح المسار نحو استدامة وازدهار، وإما تُكرّس مسارًا خطيرًا نحو شحٍ مزمن وما يجرّه من مخاطر. خياراتنا واضحة والأرقام تدق ناقوس الخطر؛ فهل من يستجيب لهذا النداء العلميّ لوضع لبنان على طريق أمنه المائي المنشود؟