
«الحزب» يوجّه «تحذيراً ناعماً» للجيش… الحِكمة تفادياً لصِدام
على وقع قَرْقَعة الحربِ التي مازالت احتمالاتُ تَجَدُّدِها تحوم فوق لبنان الذي يَقترب من طيّ صفحة عامٍ على «مطحنة» الدم والدمار التي استمرت 65 يوماً بدءاً من 23 سبتمبر 2024، يتصاعد في بيروت قَرْعُ طبولِ معركةٍ كأنّها امتدادٌ لـ «صناديق الرصاص والصواريخ» ومَسْرحُها صناديق الاقتراع التي يُفترض أن تُفتح في مايو المقبل لانتخاباتٍ نيابيةٍ تشي بأنها ستتحوّل فرصةً لحصْر نفوذِ «حزب الله» بعد قرار حصْر السلاح بيد الدولة في ضوء ما يَعتبره البعض ضموراً لنفوذِه العسكري والسياسي، في مقابل تحويل الأخير هذا الاستحقاق بمثابة «خط دفاعٍ» عما قَضَمَه من «كعكة السلطة» بوهج فائض القوة الذي تَمَتَّعَ به.
ولم يكن عابراً في غمرة انشدادِ الأنظار إلى قمة الدوحة الطارئة حيث طَرَحَ الرئيس جوزاف عون مبادرةً تقوم على حشْر إسرائيل في زاوية الإجابة عن سؤال: «هل تريد السلام العادل في منطقتنا، وإذا نعم فنحن جاهزون وفق مبادرة السلام العربية (…) التي أقرت في قمة بيروت 2002، وإذا لا، أو نصف جواب أو لا جواب، فيُبني على الشيء مقتضاه»، أن تتراكمَ المؤشراتُ إلى ما يشبه «التحمية» السياسية على مساريْن متوازييْن:
* الأوّل «إثارة الغبار» حول الانتخابات النيابية و«أصل» حصولها في موعدها من جهة وترسيم الثنائي الشيعي، حركة «امل» وحزب الله أبعاد «وجودية» لها بوصفها «معركة بقاء».
* والثاني تَظهيرٌ أكثر وضوحاً وتَشَدُّداً لمرتكزات الرفض المتدحرج من «حزب الله» لمسار سَحْبِ سلاحه الذي أطلقتْه حكومة الرئيس نواف سلام وبات مَحْكوماً بخطة تنفيذية وَضَعَها الجيشُ من 5 مراحل، تشمل الأولى استكمال تفكيك ترسانة الحزب جنوب الليطاني حتى أواخر ديسمبر.
وبلْورت مواقف لمسؤولين في «حزب الله» أمس الخفايا التي لم تعُد خافية وراء هذا المسار «المُمانع» لتسليم السلاح والذي يُمَتْرِس فيه خلف الإصرار على تنفيذ إسرائيل وقف النار وانسحابها من النقاط التي تحتلها في الجنوب اللبناني وإطلاق الأسرى وبدء الإعمار ثم الحوارِ حول إستراتيجية دفاعية يُبحث من ضمنها موضوع السلاح، في مقابل إقامة لبنان الرسمي «عازلاً» ضمنياً بين استعادةِ الدولة لمقوّماتها وسيادتها الحصرية على كامل أراضيها ولقرار الحرب والسلم ووضْعها إستراتيجية أمن وطني من خلال مجلس الوزراء، وبين معالجة تداعياتِ حرب الـ 65 يوماً عبر الدولة وما ترتأيه دبلوماسياً وسياسياً.
وفي هذا الإطار برزت المواقف الآتية:
* تأكيد المعاون السياسي للأمين العام لحزب الله حسين الخليل، أن «إملاءات خارجية صيغت تحت عنوان حصرية السلاح بنسة 99 في المئة»، محذراً من أن «قرار نزع السلاح خطيئة كبرى لأنه يضع لبنان في مهب الرياح التي يريدها المستكبر العالمي وأهواؤه المبنية على أحقاد قديمة».
وإذ لفت في حديث إذاعي إلى «أن المعاناة الكبيرة في لبنان اليوم أن بعض المسؤولين يعيشون تحت سلطة وصاية بكل ما للكلمة من معنى»، أشار إلى أن «موقف قائد الجيش في تقديم ما سُمّي بالخطة العسكرية لتنفيذ قراري 5 و7 أغسطس (حصر السلاح بيد الدولة وإقرار أهداف ورقة الموفد الأميركي توماس براك الملبْنَنة) اتسم بالحكمة أكثر بكثير من قرارات الحكومة وساهم في تنفيس الأجواء»، لافتاً في ما اعتُبر تهديداً مبطناً إلى أنه «إذا بقيت قيادة الجيش حكيمة بلغتها وبممارساتها على الأرض، فإن لا أحد يريد التصادم على الأرض، لذا نأمل استمرار هذه الفرملة من أجل استقرار البلد».
وشدد على أن «أصحاب الوصاية كانوا يعملون في الليل والنهار لإقصاء حزب الله عن الحكومة، وعليه فإن وجودنا داخل الحكومة أمر جيّد وإيجابي، مع المقارعة من داخلها وخارجها والوقوف كسدّ منيع»، وأضاف: «وجودنا في الحكومة يقضّ مضاجع أعدائنا ممن لا يريد لحزب الله أن يكون شريكاً أساسياً في البلد».
* تأكيد النائب هاني قبيسي (من كتلة الرئيس نبيه بري) أن «إعادة الاعمار مسؤولية الدولة و الحكومة لأن من تهجّر من بلدته مسؤولية الجميع، ويجب عدم التخلي والرضوخ للضغوط من دول تريد أن تضع شروطاً سياسية على بلدنا لإعادة إعماره»، معتبراً «أن كل هذا الجهد الذي يُمارس بضغوط على لبنان بتدخلات دولية إقليمية وغربية تحرّض وتخطط لاستحقاق مقبل وتريد النيل من المقاومة وثقافتها من خلال الانتخابات النيابة المقبلة»، وأضاف: «أن هذه المحطة المفصلية التي علينا جميعاً أن نحمل رايتها، قضيةٌ أساسية لانتصار الثقافة والوحدة الوطنية والعيش المشترك في لبنان، لأن الكثيرين يتربصون بهذا الوطن ويريدون تغيير الوجهة السياسية والمواقع السياسية فيه، ويريدون الحصول على مواقع توصلهم إلى أن يقدّموا أكثر مما قدمته الحكومة اللبنانية. وهذه المحطة المقبلة هي استحقاق أساسي ومفصلي وضروري، في مواجهة ثقافة أخرى وسياسة أخرى وعلينا أن نثبت حضورنا لنحافظ على دماء الشهداء وما قدمه الجنوب من تضحيات».
* تشديد المعاون السياسي لبري النائب علي حسن خليل في إطلالة على الانتخابات النيابية أنّ «حركة أمل والثنائي الوطني لن يفوّتا هذا الاستحقاق وهما متمسكان بخوضه»، وقال: «مَن كان يراهن ويحاول ويظن أنه قادر على إحداث انقلاب وكسْر منجزات تحققت على مدى 30 سنة و40 سنة من التضحيات هذا البعض سيُفاجأ بوفاء الناس وإيمانهم الراسخ بتاريخهم النضالي، وهذا الضغط السياسي والعسكري والأمني والقتل والاحتلال لن يغير من قناعات أهلنا ووفائهم».
ورغم أن بعض الدوائر تَعاطَتْ مع موقف خليل على أنه من موجباتِ «شدّ العَصَب» في الطريق إلى إحياء ذكرى اغتيال الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في 27 الجاري وقبْلها تفجيرات البيجر واللاسلكي (17 و 18 الجاري)، فإن التدقيق في هذا الموقف، خصوصاً أنه جاء على لسان المعاون السياسي للشيخ نعيم قاسم، يَشي بأن الحزب ليس في وارد أي مهادنةٍ في ما خصّ ملف سلاحه والمرتكزات التي أعلنها لمبدأ البحث فيه.
ومتى رُبط هذا الموقف بوضْع «الضوء الكاشف» على الانتخابات النيابية باعتبارها من «أدوات استهداف» الثنائي الشيعي وإكمال ما حصل في الميدان على الصعيد السياسي، يمكن وفق هذه الأوساط فَهْم الأبعاد ما فوق العادية لهذه الانتخابات كما المناخات التي باتت أكثر علنية في الحديث عن احتمالات تأجيل هذا الاستحقاق.
«خاصرة رخوة»
ففي الوقت الذي تَعتبر مَصادر سياسية أن عدم إطلاق مسار الإعمار قد يشكّل «خاصرة رخوة» لحزب الله و«أمل» في الانتخابات ما يجعلهما من غير المتحمّسين لحصول الاستحقاق في موعده، فإن دوائر عليمة ترى أن الثنائي الشيعي خصوصاً الحزب يحبّذ إنجاز نيابية 2026 بتاريخها لاعتبارات عدة أبرزها أنه يستفيد من حال الالتفاف حوله وسلاحه بعدما نجح في تظهير أن التخلي عنه سيجعل بيئته «متروكة» في الداخل «وهدفاً سهلاً» للخصوم وأن المكوّن الشيعي سيكون بمثابة «لقمة سائغة» في مكتسباته وموقعه في النظام وتوازناته.
كما أن الحزب، وفق هذه الدوائر يَرى أن الانتخابات ستعني رحيل حكومة سلام و«أجندتها» المتمحورة حول سَحْبِ السلاح، ما يعني تالياً بالنسبة إليه، أنه سيكون مُمْكِناً «تصفير» عدّاد هذا الملف عبر احتجاز تشكيل أي حكومةٍ جديدة، خصوصاً في حال كرر الثنائي الفوز بكل المقاعد الشيعية أو استيلاد فائزين بها في كنف لوائحهما، ورهن ولادتها بالسقف الذي يريد أن يَبط على إيقاعه عنوان السلاح.
على أن الأهمّ وفق هذه الدوائر، أن «حزب الله» يَستشعر بأن ثمة رغبة خارجية في استعجال بت ملف السلاح والانتهاء منه قبل الانتخابات النيابية كي تُجرى بعيداً من «وهجه»، وتالياً كي يَنبثق برلمان لا يَحتكر الثنائي مقاعد المكوّن الشيعي فيه ويعبّر أكثر عن «لبنان الجديد» الذي بدأ ينبثق بعد حرب لبنان الثالثة، وهو ما يَعني أن أي تأجيلٍ للاستحقاق النيابي قد يصبّ في هذا الاتجاه، ناهيك عن أجواء بدأت تهمس بأن ثمة مَن يسوّق بأن من الأفضل «توقيت» الانتخابات زمنياً بما يَجعل البرلمان الجديد (ولايته 4 سنوات) هو الذي يَنتخب الرئيس المقبل للجمهورية (بين أواخر 2030 ويناير 2031).
رفض إلغاء المادة 112
وهذه الأبعاد هي التي تفسّر أيضاً بحسب الدوائر نفسها، إصرارَ «حزب الله» وبري (ومعهما التيار الوطني الحر لاعتبارات أخرى) على رفض إلغاء المادة 112 من قانون الانتخاب النافذ (تنص على استحداث 6 مقاعد نيابية لتمثيل الانتشار اللبناني في الخارج)، وهو ما يَضغط خصوم الحزب في اتجاهه بما يجعل المغتربين يَقترعون من مقرّ إقامتهم في الخارج للنواب الـ 128 الذين يتألف منهم البرلمان، كلٌ بحسب قيوده الشخصية في لوائح الشطب.
ويشكّل الانتشارُ اللبناني في غالبيته الكبرى «كتلة غير صديقة» للحزب، ولخصومه تأثير عالٍ عليه وفق نتائج انتخابات 2022، الأمر الذي يجعل الحزب أمام الحاجة إلى موازَنةٍ دقيقة بين «ضرورات» إجراء الانتخابات النيابية بـ «توقيته» وبين «درء خطر» المغتربين، علماً أن هذه النقطة في ضوء ما ترتبط به من مهل ضاغطة بحال عدم إلغاء المادة 112 وعدم تبلور تفاهمات نيابية على إلغائها حتى الساعة، باتت هي «الزرّ» الذي يمكن أن يطيح بالاستحقاق في تأجيل «مقنَّع» بأسباب… «تقنية».