
ديوان المحاسبة يُغرّم سيزار أبي خليل بـ«الحد الأقصى»
فساد ملف بواخر الكهرباء لدى «دويلة» «التيار الوطني الحر» في وزارة الطاقة، لا ينتهي فصولًا. ولعل أوقح فصوله، تلك التي لم «يوفر» فيها «التيار» حتى العقود الاستشارية، والتي تنطوي على مخالفات مالية مثبتة وهدر للمال العام، على قاعدة أن وزراء «التيار» «ما بيضيعوا وقت» و»ما بيضيعوا عقد». وبما أنهم من دعاة استعراض المستندات من بوابة ما يسمونه «توثيقا» و»مكاشفة» للرأي العام اللبناني، جاءهم توثيق هذا الفساد من ديوان المحاسبة، وكان بطل الملف هذه المرة، الوزير السابق، سيزار أبي خليل، الذي أطل على اللبنانيين منذ أيام، لينتقد سياسة وزير الطاقة الجديد جو صدي، مزايدًا في «الحرص على أموال اللبنانيين»، وغاب عنه أن «اللي بيته من زجاج ما بيرشق الناس بحجارة».
فقرار جديد للديوان حصلت «نداء الوطن» على نسخة منه، حول «التحقيق في المخالفات المالية الحاصلة نتيجة عقد مصالحة مع شركة Poyry Switzerland Ltd لتسديد بدل تقييم خدمات استشارية لدراسة وتقييم عروض استئجار طاقة من باخرتين وربطهما بمعملي دير عمار والزهراني، «ثبّت مخالفات هذا العقد، وقضى بتغريم أبي خليل، بالحد الأقصى الوارد في المادة 60 من قانون تنظيم المحاسبة».
الوزير السابق والنائب الحالي في مجلس النواب، لم يكتفِ في «دفاعه» بحجة أقبح من ذنب تمثلت بتبرير عقد المصالحة ومخالفاته بـ «الخطة الطارئة» للكهرباء، بل تجرأ على التشكيك بقرار ديوان المحاسبة الموقت الصادر عام 2023، وهو ما اعتبرته الهيئة القضائية للغرفة السابعة في الديوان، التي صدر عنها القرار النهائي «تدخلًا بالسلطة القضائية».
«اليوم تُسلب الكهرباء والمياه»، قال رئيس «التيار الوطني الحر»، النائب جبران باسيل منذ أيام، محاولًا تحميل وزر الفشل والهدر طيلة حكم «التيار» في الوزارة، لعهد جديد في وزارة الطاقة.
فكيف سلبت «أموال» اللبنانيين على عقد بويري سويسرا المحدودة بشكل غير قانوني؟ وكيف عرّى القرار النهائي للديوان، تعاطي الوزير أبي خليل، مع وزارة الطاقة، كأنها «ملك خاص»، يطلق فيها العقود بأوامر «شفهية» تستدعي مصالحة، متخطيًا ديوان المحاسبة، ومتخطيا مهام المدير العام للإستثمار في الوزارة، ومتحججًا بأنه «رأس الإدارة» في الوزارة، مانحًا نفسه صلاحيات مطلقة من خارج القانون، ودومًا على حساب المال العامّ؟
عام 2023: القرار الموقّت
وصدر بتاريخ 16/7/2025، قرار ديوان المحاسبة في الرقابة القضائية على الموظفين رقم 16/ر.ق نهائي، حول «التّحقيق في المخالفات المالية الحاصلة نتيجة عقد مصالحة مع شركة Poyry Switzerland Ltd لتسديد بدل تقديم خدمات استشارية لدراسة وتقييم عروض»، قضى بتغريم وزير الطاقة السابق سيزار أبي خليل، بالحد الأقصى الوارد في المادة 60 من قانون تنظيم المحاسبة (مليون وخمسمئة ألف ليرة)، وقد تم إبلاغ النيابة العامة لديوان المحاسبة.
ويأتي القرار النهائي، بعد عامين على «قرار موقت» للديوان، بتاريخ 19/1/2023 حمل الرقم 3/ر.ق 2023، كان قد حدد «المخالفات المالية المرتكبة من قبل أبي خليل في سياق عقد اتفاق رضائي لتقديم خدمات استشارية لتقييم عروض استئجار طاقة من باخرتين وربطهما بمعملي دير عمار والزهراني.
وكان القرار الموقت قد فنّد تلك المخالفات التي تمثلت: أولًا في عدم الالتزام بالإجراءات القانونية السليمة في عملية التعاقد بالتراضي، ثانيًا: في تجاوز صلاحيات ديوان المحاسبة، ثالثًا: في عدم مراعاة القوانين الضريبية. ورابعًا، في مخالفة الأصول في تشكيل لجان الاستلام، ليأتي القرار النهائي لا ليثبت المخالفات وحسب، بل ليعرّي «دفاع» الوزير أبي خليل، الذي لم يكتف بعقد رضائي، حارمًا الدولة من عروض منافسة، بل وصل به الأمر، لإطلاق العقد «بأمر شفهي»، قبل إيداعه للديوان، متجاوزًا موافقة ديوان المحاسبة، ودومًا بحجة أنه «الرأس الأكبر» في الوزارة.
الطعن في شرعية العقد
وانطلق القرار الموقت من 3 مخالفات أساسية وجاء القرار النهائي ليؤكدها. وهنا ملخص عن أبرز تلك المخالفات كما وردت في التقريرين:
أولًا- المخالفات المتعلقة بإجراءات العقد الرضائي. فالمادة 150 من قانون المحاسبة العمومية «تنص على ضرورة تقديم دراسة مسبقة من قبل الإدارة تثبت تجاوز الصفقة لإمكانياتها وهو ما لم يتم الالتزام به في هذه الحالة».
كما لم تراع الشروط المنصوص عليها في قرار مجلس الوزراء رقم (9) تاريخ 17/5/2017 الذي نظّم أصول التعاقد بالتراضي، ولا سيما ما يتعلق باستدراج عروض بعد إعلان عملية تأهيل مسبق.
العقد مرّ كذلك متخطيًا ديوان المحاسبة، وهذه مخالفة تطعن في شرعية العقد وصولًا لإبطاله. فقد «وضعت المعاملة موضع التنفيذ قبل عرضها على الرقابة الإدارية المسبقة لديوان المحاسبة، في مخالفة صريحة لأحكام المادة (33) من قانون تنظيم المحاسبة، التي تؤكد أن الرقابة المسبقة ركن جوهري، وأن أي إجراء يتم دونها يعتبر باطلًا، ويترتب على ذلك حظر تنفيذ المعاملة من قبل الموظف المختص، تحت طائلة العقوبات المنصوص عليها في المادة (60) من ذات القانون». فيما هذه المخالفة المالية «تستوجب المساءلة بمقتضى المادة (60) الفقرة -3- من قانون تنظيم ديوان المحاسبة».
ثانيًا- المخالفات المالية المتعلقة بالقوانين الضريبية
وثبّت القرار النهائي، «إهمال التحقق من تقيد الطرف المنوي التعاقد معه بالقوانين الضريبية، ما «يشكل تقصيرًا في أداء الواجبات الملقاة على عاتق الوزير ويستوجب المساءلة القانونية وفقًا للأصول والقوانين المرعية الإجراء بما في ذلك المادة 60 من قانون تنظيم المحاسبة».
ثالثًا- المخالفات المتعلقة بتأليف لجنة الاستلام
أما قرار وزير الطاقة رقم (26/ق/و) تاريخ 1/10/2018، الذي قضى بتعيين لجنة استلام لخدمات المكتب الاستشاري الدولي «بويري سويسرا المحدودة»، فأتى بشكل مخالف لأحكام المادة (139) من قانون المحاسبة العمومية، لتشكل هذه المخالفة «خرقًا للضوابط القانونية المنظمة لإدارة المال العام».
في القرار النهائي، حاول الوزير تبرير تجاوزه صلاحيات المدير العام المناط به تشكيل اللجنة، بالقول إن الوزير هو رأس الإدارة ويحق له الحلول مكان المدير العام (المدير العام للاستثمار، غسان بيضون آنذاك)، وهو طرح «مجافٍ للأصول القانونية والإدارية… فالنص القانوني واضح لا لبس فيه لجهة إناطة تشكيل لجان الاستلام بالمدير العام»، وفق ما جاء في قرار الديوان.
استغلال الأزمة كحجة لتهريب العقود المشبوهة
وأتى القرار النهائي، ليكشف استغلال أبي خليل لأزمة الكهرباء، كحجة «لتهريب» العقود المشبوهة، ليرتقي وزراء «التيار الوطني الحر» من مرتبة افتعال وتأزيم أزمات الكهرباء إلى تحويلها «نعمة» لهم، و»الإستفادة» منها حتى آخر عقد استشاري رضائي!
هذا ما يبينه ردّ سيزار أبي خليل في دفاعه، ضد القرار الموقت لديوان المحاسبة. حيث بنى تبريره مستقويًا بـ»خطط الطوارئ التي وضعها مجلس الوزراء للكهرباء» وأبرزها خطة صيف 2017.
وما جاء في دفاعه «بما أنّ الوزير قام بإيداع المعاملة، في اليوم التالي للموافقة الشفهية على المباشرة بالتنفيذ نظرًا للعجلة القصوى والماسة التي تستوجبها دواعي ومبررات خطة الطوارئ للكهرباء لصيف 2017 التي أقرها مجلس الوزراء، وبذلك ينتفي القول بوجود مخالفة لأحكام المادة 33 من قانون ديوان المحاسبة».
هذا الدفاع (الاعتراض) لأبي خليل، لا يستند لأساس قانوني سليم برأي ديوان المحاسبة، الذي اعتمد «عدم إمكانية الأخذ بحجة الاستعجال، لعدم اتخاذ الإجراءات القانونية في الوقت المناسب»، وقرّر «عدم الأخذ بالاعتراض أو الدفع بالحالة المستعجلة الطارئة لانتفاء شروطها القانونية، فأزمة الكهرباء عام 2017 كانت معلومة ومتوقعة سلفًا… وتم التخطيط لمواجهتها مسبقًا… فيما هذه الحالة «لا ترقى بأي حال من الأحوال إلى مرتبة الطارئ غير المتوقع».
لكن الحجة «الفاقعة»، لسيزار أبي خليل، تمثلت بقوله «سبق للوزارة أن استعانت بخدمات هذا المكتب (بويري سويسرا المحدودة)، وقد عرض العقد على الديوان ولقي موافقته». وبكل جرأة، يسأل أبي خليل ديوان المحاسبة: «فما تبدل في مؤهلات الشركة هذه بين الأمس واليوم؟»، الأمر الذي يؤسس لنهج خطير، قوامه نسف فكرة التلزيمات وتكريس العقود بالتراضي بشكل مطلق تحت حجة «الطارئ»، لا بل الشروع بها بمجرد «أمر شفهي» من الوزير، ثم استكمال المخالفات تحت مسمى «عقد مصالحة».
وهذه السلوكيات، حتى الشركات متوسطة الحجم لا تجرؤ على فعلها. فكيف بوزير مؤتمن على المال العام؟ وهناك قوانين تنظم العقود التي تعقدها الوزارة؟ فالوزير مش «فاتح دكانة» على حسابه، ليتعاقد فيها مع من يشاء وكيفما يشاء، تحت حجة أننا «جرّبناه». وفي هذه النقطة بالتحديد، يقول الديوان في قراره النهائي «كل تعاقد يشكل واقعة قانونية مستقلة تتطلب استيفاء شروطها في حينه»، ومن جهة أخرى «التعاقد السابق بالتراضي «لا يشكل بأي حال من الأحوال، حقًا مكتسبًا للإدارة أو حتى الجهة المتعاقدة».
«التعسف باستعمال السلطة»
تصرّف الوزير هذا، تترتب عليه المساءلة القانونية نتيجة «التعسف باستعمال السلطة» وفق قرار الديوان. فإغفال الإجراءات القانونية الأساسية والإكتفاء بالإستناد إلى «تعاقد سابق» يشير إلى تجاوز للسلطة التقديرية بما قد يرقى إلى مرتبة التعسف في استعمال السلطة ويؤدي بالنتيجة إلى بطلان التصرفات المترتبة عليه ويعرّض الوزير المسؤول عنها للمساءلة القانونية».
فقرار الديوان كان واضحًا، لناحية أن اللجوء إلى التعاقد بالتراضي دون توافر الشروط القانونية المبررة لذلك، وإغفال إجراءات المنافسة والتأهيل للحصول على أفضل العروض من حيث الأسعار والجودة، بما يصب في مصلحة المال العام ، «يفقد التعاقد شرعيته (حتى لو كانت الجهة قد قدمت خدمات جيدة في السابق)». وهو ما جعله يرد الدفوع (والإعتراضات) المقدمة من قبل الوزير السابق في الأساس لهذه الناحية، «كونها تفتقر للأساس القانوني السليم وبالتالي ثبوت المخالفة المالية بحقه مما يستتبع وجوب تغريمه وفق المادة 60 من قانون ديوان المحاسبة»، معتبرًا أن «عقد المصالحة لا يشكل غطاء قانونيًا لمخالفة الأصول، بل هو إجراء قانوني يعالج آثار المخالفة المالية الحاصلة والتي تبقى قائمة».
أبي خليل يتدخّل بالسلطة القضائية
لكن أبي خليل لم يكتف بالإدانة الأولى، بل سعى لإدانة ثانية. ففي معرض دفاعه، ذهب لموقع «الهجوم» على قرار ديوان المحاسبة الموقت، ما وصفه قرار الديوان النهائي بـ»التدخّل في السلطة القضائية».
«القرار (أي قرار الديوان الموقت) قد تبنى واقعات مغلوطة»، و»كان من الأجدى تحميل المدير العام نتائج مخالفته وليس منحه مكافأة بإعفائه من العقوبات…».
ووفق قرار الديوان النهائي، فإن هذه العبارات الصادرة عن وزير الطاقة والمياه في حينه سيزار أبي خليل تعد «تجاوزًا غير مقبول وتعديًا صارخًا على المبادئ الأساسية التي يقوم عليها نظام العدالة، وفي مقدمها مبدأ فصل السلطات وسيادة القانون، والتي تكفل استقلالية الهيئة القضائية في أداء مهامها».
وذكّرت الهيئة القضائية، بأن أحكام القضاء «تبنى على أسس قانونية راسخة وأدلة دامغة بعد مراجعة قانونية دقيقة وشاملة»، رافضة «رفضًا قاطعًا فكرة منح المدير العام السابق مكافأة بإعفاء من العقوبات، حيث تستند القرارات القضائية إلى معايير قانونية بحتة ولا تخضع لأي اعتبارات سياسية أو شخصية».
مدير عام الاستثمار في حينه، غسان بيضون، الذي طلب منه أبي خليل، تشكيل لجنة الاستلام بعد انتهاء الأعمال، ورفض، ما جعل الهيئة القضائية تستخلص أنه قام بعمله وفق الأصول و»لم يرتكب أي مخالفة»، يقول في حديث لـ «نداء الوطن»: «الوزير أبي خليل قد أودع المعاملة للديوان بعدما كانت منفّذة، ما جعلني أرفض تشكيل لجنة الاستلام، فالعقد كان منفذًا أصلًا وخلافًا للأصول، فعيّن الوزير لجنة متخطيًا صلاحياتي كمدير عام، ورفضت أن أتورط بذلك، مع العلم أنني كنت قد أودعت الملف للديوان، وأخبرت الوزير بالمخالفات، محترمًا الأصول ومن باب لفت نظر الوزير إلى كل تلك المخالفات، لكنه لم يستجب».
وزراء «التيار»: فوق القانون؟
ورأت الهيئة القضائية أنه «يقتضي والحالة ما ذكر، التأكيد مجددًا على ضرورة الاحترام الكامل للقرارات القضائية، والتشديد على وجوب امتناع أي طرف عن تكرار «مثل هذه العبارات غير المسبوقة وغير المسؤولة بحق السلطة القضائية المستقلة من دون أي مسوغ قانوني».
وقد قرّر الديوان بصورة نهائية، في نطاق الرقابة القضائية على الموظفين: قبول دفاع أبي خليل بالشكل، ورد دفاعه في الأساس وتغريمه وإبلاغ مجلس النواب نسخة عن القرار. والسؤال اليوم: هل تتحرك النيابة العامة لديوان المحاسبة؟
وهل يذهب الملف «للآخر» في العهد الجديد، ليكسر روحية تعاطي أبي خليل «الفوقية» مع القضاء اللبناني، التي كرسها عهد الرئيس السابق ميشال عون، فكان وزراء التيار «فوق المحاسبة»؟