
لعنة البواخر: هكذا حُكِمَت الكهرباء بالصفقات
شكَّلَ العام 2010 محطّة مفصلية سلبية في تاريخ الكهرباء. ففي ذلك العام أقرّ مجلس الوزراء “ورقة سياسة قطاع الكهرباء” التي كان من المفترض بها أن تضع الخطوات الأساسية لإصلاح القطاع. وعوض ذلك، تتالت النكبات حتى وصلنا إلى عتمة شبه شاملة. ومن تلك الورقة، انطلق مشروع بواخر الطاقة التركية، الذي تحوّل من مشروع مؤقّت لزيادة ساعات التغذية، إلى مشروع شبه دائم، إذ لم يكن ليتوقف لولا الأزمة الاقتصادية وانهيار قدرة الدولة ومؤسساتها على تأمين التمويل بالدولار.
إلاّ أنّ معضلة البواخر لم تنتهِ هنا. فمعامل إنتاج الكهرباء بحاجة إلى الفيول. ومع تعدّد مصادره والبواخر الناقلة له بحراً، زادت الصفقات، فتحوّلت البواخر إلى لعنة، تمثّلت آخر صورها بفضيحة الباخرة HAWK III التي حملت فيول بشهادة منشأ مزوَّرة.
محاولة فرار
مع محاولة الباخرة HAWK III الهروب من المياه اللبنانية بعد انكشاف أمر تحميلها فيول بشهادة منشأ مزوّرة، وتمكُّن الجيش اللبناني من لحاقها وضبطها، يعود إلى الأذهان مسلسل البواخر في لبنان، سواء بواخر إنتاج الطاقة أو توريد الفيول. فكلّها تحمل حكايات مشبوهة.
هذه المحاولة ليست الأولى. ففي تموز 2016، حاولت إحدى بواخر نقل الفيول، الفرار أثناء تفريغها الفيول في الزوق. تحرُّك الباخرة أثناء تفريغ حمولتها اعتبره البعض خطأً غير مقصود، إلاّ أنّ طريقة تفريغ الحمولة، أشارت إلى ما هو أبعد. إنّ ضخ الفيول من الباخرة “لم يكن على المستوى المطلوب. فالضخ يبدأ عادة بمستوى منخفض، ويرتفع، ثم ينخفض تدريجاً مع إقتراب إنتهاء المخزون، لكن المستغرب أن مستوى الضخ بدأ منخفضاً وبقي منخفضاً حتى لحظة تحرك الباخرة”، وفق ما أشارت إليه في حينه، مصادر متابعة للملف. والتي رجّحت في حديث لـ”المدن” إمكانية وجود عقدة مخفية وراء الحادث، منها على سبيل المثال، “صفقة لم تتم بين بعض المسؤولين عن التفريغ وأشخاص مستفيدين على متن الباخرة. ما دفع إلى وقف عملية الضخ بهذه الطريقة، ومحاولة الهروب”. وحتى اللحظة، طُمِسَت الحادثة.
البواخر التركية
على أنّ أبرز فصول مسلسل البواخر، يعود إلى ما وافق عليه مجلس الوزراء عام 2010، والذي كان يحمل في أبعاده إصلاح القطاع، خصوصاً لناحية الاعتماد على الطاقة المتجدّدة، وتخفيض الاعتماد على الفيول لإنتاج الكهرباء. فضلاً عن إيجاد توازن لمداخيل قطاع الكهرباء وإنهاء عجزه المالي. وكل ذلك لم يحدث، ليس بسبب الأزمة الاقتصادية وانعكاساتها، كما يفضّل البعض إشاعته، بل لأنّ القطاع أُدير بنهج الصفقات ومخالفة القوانين. فالنتائج كانت ظاهرة قبل العام 2019.
باكورة “إنجازات” ورقة سياسة القطاع، ظهرت في العام 2013 مع وصول الباخرتين أورهان بيه وباخرة فاطمة غول، التابعتين لشركة كارادينيز باوِرشيب التركية. وهما عبارة عن معامل عائمة لإنتاج الكهرباء. وبما أنّ الإنتاج يعتمد على توريد الفيول، دخلت مؤسسة كهرباء لبنان ومن أمامها وزارة الطاقة، في نفق تأمين الأموال لشراء الفيول، أي تمويل بواخر تأمين الفيول.
العقد مع الشركة التركية كان يفترض أن ينتهي عام 2018، لكن مجلس الوزراء مدّده إلى العام 2021، فمدّد بذلك معضلة تأمين الفيول. وللمفارقة، اشتكت الشركة التركية مراراً من الإتيان بفيول مغشوش، ما دفعها أحياناً إلى وقف إنتاج الطاقة خوفاً على مولّداتها. وانتهى مسلسل البواخر التركية مع مستحقات لصالحها على الدولة اللبنانية بقيمة 200 مليون دولار. علماً أنّ مشروع استئجار تلك البواخر، كلّف الخزينة أكثر من 4 مليار دولار.
شركة سوناتراك الجزائرية
حطّ ملف البواخر التركية رحاله مع ما رافقه من صفقات وأسعار خيالية دفعتها الدولة. فظهر فجأة ملفّ الفيول المغشوش المرتبط بشركة سوناتراك الجزائرية التي تورِّد الفيول للبنان بموجب عقد موقّع عام 2005.
وفي آذار 2020 اتّهمت الشركة الجزائرية بتحميل فيول مغشوش على متن باخرة T/BALTIC. إلاّ أنّ الشركة رفضت الاتهامات وهدّدت باللجوء إلى التحكيم الدولي ضد لبنان، مؤكّدة أنّ الحمولة المذكورة، تم فحصها في مرفأ التحميل من قِبَل شركة عالمية متخصّصة متوافق عليها في العقد بين الشركة ووزارة الطاقة اللبنانية، وتم إصدار شهادة الجودة المثبتة لمطابقتها جميع المواصفات التقنية المطلوبة والمفروضة تعاقدياً. وبذلك، يبقى الخيار هو تبديل الفيول المطابق بفيول مغشوش. وبموجب العقد بين الطرفين، فإنّ ملكية الفيول ومخاطره تقع على عاتق الدولة اللبنانية، بعد صدور شهادة الجودة التي تثبّت أن الحمولة مطابقة للمواصفات، وبعد خروج الفيول من مرفأ التحميل.
ورغم ذلك، أصرّت وزيرة الطاقة السابقة ندى بستاني على أنّ مؤسسة كهرباء لبنان “لم تُخدَع سابقاً بالفيول المغشوش، فوزارة الطاقة بالمرصاد”، وألقت اللوم على الشركة الجزائرية التي “اختارت تزويد لبنان بالفيول عبر وسيط لبناني”.
إلاّ أنّ الجزائر تغاضت عن هذا الملف إثر أزمة الكهرباء اللبنانية. فقرّرت في تموز الماضي، تقديم هبة عبارة عن سفينتيّ فيول، بهدف تمتين العلاقات بين البلدين والمساهمة في تأمين الاستقرار الكهربائي في لبنان.
الفيول العراقي
أوصلَ استمرار الاستنزاف في ملف الكهرباء، لبنان إلى الاعتماد على الفيول العراقي لتأمين نحو 4 ساعات كهرباء. ووصلت أولى شحنات الفيول العراقي في أيلول عام 2021. وجُدِّدَ العقد في تموز عام 2023 مع زيادة الكمية من مليون طن إلى مليون و500 ألف طن. لكن أزمة عدم التزام لبنان بتأمين الخدمات المتفق عليها بين البلدين، كطريقة لتسديد ثمن الفيول، جعل العراق يبرم اتفاقاً جديدًا مع لبنان، منفصلًا عن العقد الأول، ينص على توريد 2 مليون طن متري، لكن يُدفع ثمنها نقداً وليس عبر الخدمات.
لكن مشكلة توريد الفيول العراقي أعمق من قضية كيفية تسديد ثمنه. فعلامات الاستفهام طالت آلية الإتيان بالفيول إلى لبنان. فالعراق يبيع لبنان زيت الوقود، وعلى لبنان إطلاق مناقصات لاستبداله بفيول ملائم لمعامل الإنتاج، ومناقصات لشحنه إلى لبنان.
أيضاً، ظهرت حلقة أخرى من مسلسل بواخر الفيول، في آب 2023، حين قرَّرَ وزير الطاقة السابق وليد فيّاض صرف باخرة تحمل شحنة فيول كان قد تعاقد لأجلها مع شركة كورال إينيرجي Coral Energy DMCC كجزء من مجموع شحنات الفيول التي أجاز مجلس الوزراء استيرادها لتأمين الفيول لمعامل الكهرباء، ضمن خطة الطوارىء. وقرار الصرف، جاء بعد وصول الباخرة ورسوّها قبالة الشاطىء اللبناني، قبل تأمين الاعتماد المالي المطلوب لها، وكان بقيمة 29 مليون دولار. علماً أنّ هذه الباخرة كانت جزءاً من 3 بواخر كان ينتظر لبنان وصولها عبر شركة “فيتول بحرين” Vitol Bahrain E.C التي فضّلت التوقّف عن توصيل الشحنات بسبب عدم دفع الدولة غرامات التأخير المستحقة لها، بفعل تأخير استقبال البواخر وتأمين الاعتمادات المالية لها. وقيمة الغرامات فاقت الـ100 مليون دولار.
مع العلم أنّ المادة 57 من قانون المحاسبة العمومية تنص على أن لا تعقد النفقة إلا إذا توفر لها اعتماد في الموازنة. كما أن المادة 112 من القانون نفسه تنص على تحمُّل الوزير من ماله الخاص، مسؤولية ما يرتّبه من نفقة غير متوفر لها الاعتماد أو تجاوز قيمة الاعتماد المقرَّر، في حال وجوده. وخلافاً للقانون سارع وزير الطاقة إلى طلب البواخر والإتيان بها إلى الساحل اللبناني قبل تأمين الاعتمادات المالية لها عبر إقرار سلفة خزينة.
ترتبط البواخر بملف الكهرباء ارتباطاً وثيقاً. وهي في الأصل ممرّ أساسي لتأمين الفيول. لكن ما ليس أساسياً وإلزامياً هو التصاقها بالصفقات والفساد لتكون النتيجة عتمة شبه كاملة، وهدر مستمر للمال العام.