
الروشة تُضاء بلا إذن… وتفجّر سجالًا سياسيًا
بيروت، المدينة التي ضاقت بالأثقال، لا تزال تحتفظ بمعالم قليلة تنبض بالرمزية الجامعة، تلك التي تجمع اللبنانيين على اختلافهم حول صورة واحدة. صخرة الروشة هي أحد أبرز هذه المعالم، حجر صلب يواجه البحر منذ آلاف السنين، لكنّه في وعي اللبنانيين أبعد من مجرّد تكوين جيولوجيّ: هو هويّة تعريف بصرية للعاصمة، وجهها المألوف في البطاقات السياحية وصورها الفوتوغرافية، وذاك الرمز الذي لم تنجح السياسة بعد في تطويقه.
إلى أن جاء الإعلان عن نية إضاءتها بصور حزبية: صورة الأمينين العامّين لـ “حزب اللّه” الراحلين حسن نصراللّه وهاشم صفي الدين في 25 أيلول احتفاءً بالذكرى الأولى لاغتيالهما، أي في مناسبة تخصّ شريحة دون أخرى. وإن بدا الإعلان في ظاهره فعلًا رمزيًا محدود الأثر، إلّا أنّه حرّك سجالًا واسعًا: هل يجوز تحويل رمز وطنيّ إلى مساحة لتصفية الرسائل السياسية؟
أكّدت أجواء بلدية بيروت أنّ إذن الإضاءة يُستحصل أصلًا من المحافظ، باعتبار أنّ الصخرة معلم وطنيّ ينبغي أن يبقى بمنأى عن كلّ ما يثير الانقسام، ومن الأجدى ترك المعلم الوطني بعيدًا من الاستعمال في مناسبات خلافية، مشدّدة على كامل الاحترام للموت، إلّا أنّ خطوة كهذه قد تكون مستفزّة لشريحة واسعة من أبناء العاصمة الذين لا يرون في الروشة ساحة للدعاية أو استعراض الولاءات.
وعلمت “نداء الوطن” نقلًا عن محافظ بيروت مروان عبّود أنّ الإعلان صدر أصلًا في مؤتمر صحافي قبل أخذ الإذن، وأنّ المحافظ لم ولن يعطي الإذن، مؤكّدًا أنّ بيروت اليوم في طور إعادة الإحياء، ولا تحتمل إدخالها في سجالات تزيد الاصطفافات. علمًا أنّ الإعلان جاء جهارةً في مؤتمر صحافي خصّص لسرد فعاليات إحياء الذكرى السنوية الأولى لاغتيال الأمينين العامّين لـ “حزب اللّه”.
من هنا، تبرز الإشارة إلى أنّ الإعلان عن إضاءة الصخرة لا يحمل أي طابع رسمي، بل أقرب إلى فعل أحاديّ خارج الأطر القانونية. وليس سرًّا أنّ “حزب اللّه” اعتاد تجاوز المؤسّسات، فخاض حربًا من دون أن يستأذن أحدًا، فكيف الحال بإضاءة صخرة؟ لكنّ المفارقة اليوم أنّ لبنان يعيش مخاضًا مختلفًا: لبنان الدولة لا “الدويلات”، لبنان الذي يبحث عن صياغة جامعة تليق بهويّته، ولا يحتمل أن يُستنزف رمزيًا عند كلّ منعطف.
وفي خلفية هذا الموقف هاجسٌ عميق: فإذا فُتح الباب لإضاءة الصخرة بحدث حزبي أو طائفي، فلن يُغلق بسهولة، وستصبح الروشة مساحة صراع إضافية، بينما بيروت المثقلة أصلًا بأزماتها الاقتصادية والاجتماعية أحوج إلى ما يوحّدها.
أصوات اعتراضيّة برزت من نوّاب العاصمة أيضًا. فؤاد مخزومي شدّد على أنّ الروشة “ليست مساحة للدعاية الحزبية بل هي رمز وطني جامع”، محذرًا من أن إدخالها في لعبة الشعارات يشكّل “تهديدًا لوحدة العاصمة”. عماد الحوت رأى بدوره أنّ “الصخرة تعكس صورة لبنان المتنوّع ويجب أن تبقى رمزًا يوحّد أبناءه لا يفرّقهم”، فيما نبيل بدر ذكّر بأنّ “الذكرى أسمى حين تُحتفى في فضاء يخصّ أصحابها، لا على معلم ارتبط بتاريخ العاصمة وهويّتها الجامعة”. أمّا وضاح الصادق فاعتبر رفع صور نصراللّه وصفي الدين غير مقبول كونهما شخصيّتين غير رسميّتين حيث يرفض السكّان سياستهما لا بل قد يتهمونهما باغتيال زعيمهم، داعيًا الحكومة للتصدّي لأي مبادرة استفزازية.
في الظاهر، هي مجرّد إضاءة مسائية، لكنها في الباطن أكثر من ذلك. فالمكان ليس مكانًا عابرًا، هناك التقط السيّاح صورهم “مع بيروت”، ومن حولها لبنانيون بشتّى انتماءاتهم يُجمعون على حبّها، فالصورة التي نسعى لنظهرها صورة تمثّل الجميع.
الروشة جزء من الذاكرة الجماعية، ومن طبيعة الرموز أنّها لا تحتمل الانقسام، إذ تتحوّل فور إدخالها في بازار السياسة إلى ساحة اشتباك لا إلى نقطة التقاء. وحين تُضاء بمعانٍ حزبية تقسّم اللبنانيين، تخسر شيئًا من بريقها الوطني الذي لطالما شكّل مساحة توافق نادرة في بلدٍ يندر فيه التوافق.