“قمة الدوحة” تكشف طموح بغداد: عراق المبادرة لا الساحة

“قمة الدوحة” تكشف طموح بغداد: عراق المبادرة لا الساحة

الكاتب: عماد الشدياق | المصدر: نداء الوطن
18 أيلول 2025

في قمة الدوحة الطارئة، لم يذهب رئيس الحكومة العراقية محمد شياع السوداني ليكرّر خطابات الإدانة التقليدية، وإنّما كي يقدّم نفسه وبلاده العراق، كلاعب مختلف. الرجل الذي بنى مسيرته الداخلية على سياسة “التوازن” بين القوى المتصارعة، حاول أن يترجم هذا النهج إلى مقاربة خارجية أوسع، تضع العراق في موقع لم يعتده منذ سنوات طويلة: موقع الدولة التي تقترح وتُبادر، وليس الدولة التي تتلقى وتنتظر.

منذ تسلّمه رئاسة الحكومة العراقية، وُصف السوداني بأنه “مدير توازنات” أكثر منه “صانع سياسات”. لم ينحز بشكل كامل إلى الأميركيين، ولا سلّم أوراقه كلّها للإيرانيين، بل أعاد تدوير موقع العراق كـ “جسر” بين عاصمتين متصارعتين.

داخليًا، تجنّب السوداني فتح معارك كبرى مع الميليشيات الإيرانية، لكنّه أيضًا لم يترك الدولة تُبتلع تمامًا. اختار أن يُعطي الجيش والشرطة مساحات للحركة، فيما حافظ على علاقة قائمة مع “الحشد الشعبي” المدعوم من إيران. هذه القدرة على مسك العصا من الوسط، هي التي أبقته في موقعه حتى الآن.

في كلمته بقمة الدوحة الطارئة على خلفية الهجوم الإسرائيلي الذي طال قيادات حركة “حماس” هناك، أخذ السوداني هذه السياسة خطوة أبعد. لم يكتفِ بأن يدين الاعتداء على قطر ويعلن تضامنه مع فلسطين كما مع لبنان وسوريا واليمن، بل حاول أن يطرح تصورًا استراتيجيًا: تحالف إسلامي واسع، مجموعة اتصال عربية – إسلامية، خريطة طريق لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، وصولًا إلى برنامج إعادة إعمار تحت إشراف أممي – عربي.

هذه اللغة لم تأتِ من فراغ، بل من رغبة واضحة لديه في إعادة تقديم دولة العراق كلاعب إقليمي يُحسب له حساب، وليس مجرّد ساحة وظيفتها تصفية الحسابات واستضافة الصراعات… وهنا تكمن الزاوية الأهم: السوداني لا يقدّم نفسه كـ “خطيب سياسي” وإنما “وسيط محتمل”. هو يعرف أنّ بغداد تملك وزنًا موضوعيًا: موقع جغرافي على تماس مع كل خطوط النار في المنطقة، ثروات نفطية هائلة يحتاجها الجميع، وعلاقات متوازنة مع محاور متناقضة. العراق لا يملك ترف الانحياز الكامل، لكنّه يحوز قدرة فريدة على التحدّث مع الجميع. ومن هنا، ينطلق السوداني ليحوّل هذه الضرورة إلى ميزة.

في خطابه، كان لافتًا تطرّقه إلى فكرة “الأمن الجماعي”، باعتباره غير قابل للتجزئة. هذه العبارة تحمل شحنة رمزية قوية: العراق الذي عاش عقودًا تحت وطأة التدخلات والانقسامات، يحاول أن يقول اليوم، إنّ استقرار أيّ دولة عربية أو إسلامية هو جزء من استقراره.

إذًا، الرسالة من الدوحة كانت واضحة: إذا كان العراق قد دفع ثمن أن يكون ضعيفًا، فهو اليوم يريد أن يربح في أن يكون متوازنًا وقادرًا على حماية المنظومة العربية والإسلامية ككل.

لكنّ التحدي الكبير يكمن في التنفيذ. الدعوة إلى تحالف إسلامي واسع، تظلّ في نظر كثيرين أقرب إلى الأمنيات منها إلى المشاريع الواقعية. ومع ذلك، فإن مجرّد أن يأتي هذا الطرح من بغداد، خصوصًا بعد سنوات من انكفائه على أزماته الداخلية، هو تطوّر لافت.

ومن الواضح أنّ السوداني يسعى إلى أن يستثمر في تلك اللحظة الإقليمية المرتبكة: الولايات المتحدة تتراجع عن أدوارها التقليدية، إيران تبحث عن سبل من أجل تخفيف الضغوط عنها، بينما الخليج يوازن علاقاته مع كلٍّ من واشنطن وبكين وموسكو. ووسط هذا المشهد الملتبس تعود فلسطين إلى الصدارة مجدّدًا عبر مأساة غزة. وفي قلب هذه اللحظة، يريد العراق أن يقول: “أنا حاضر”.

المعادلة التي أرساها السوداني تقوم على نقل صورة “رجل التوازن” من الداخل إلى الخارج. في بغداد، هذا التوازن منعه من السقوط، بينما في الدوحة، قد يخلق فرصة للعراق من أجل ريادة دور إقليميّ جديد. فإذا استطاع أن يثبت أنّ العراق قادر على لعب هذا الدور، ولو تدريجيًا، فسيفتح الباب لمرحلة قد تستعيد فيها بغداد بعضًا مِمّا فقدته من مكانة عربية وإسلامية منذ عقود.

السوداني يدرك أنّ التوازن ليس بطولة، لكنّه شرط من أجل البقاء. وإذا حوّل هذا الشرط إلى منصّة للمبادرة، فقد نكون أمام زعيم عراقي يكتب فصلًا مختلفًا.