
واشنطن لـ”نفوذ كامل” في سوريا: إحباط أي تنسيق روسي- إسرائيلي
منذ عقود، والصراع الدولي على سوريا مستمر وقائم. في السنوات الأخيرة تحولت الجغرافيا السورية ساحة تقاتل وملعباً تُصفّى عليه الحسابات الإقليمية والدولية، علماً أن دمشق كانت من قبل شريكة في اللعب على ساحات أخرى. ومنذ سقوط نظام بشار الأسد، ازدادت حدة الصراع على سوريا. دول كثيرة سعت إلى تعبيد طريق النفوذ، ودول أخرى سعت إلى المحافظة على مكتسباتها وقواعدها، كما هو الحال بالنسبة إلى روسيا. جاءت لحظة سقوط الأسد مع سعي إسرائيل إلى إنتاج رسم جديد لتوازنات المنطقة، فكثفت من عملياتها العسكرية، وعمّقت من توغلها البري لتدمير كل القدرات السورية، بهدف فرض وقائع جديدة. كل السياق الإسرائيلي في سوريا يهدف إلى فرض السلام بالقوة، وليس الدخول في اتفاقيات سلام، ما يعني أن تل أبيب تستخدم عناصر القوة لديها لفرض اتفاقيات وترتيبات أمنية تضمن لها أمنها الاستراتيجي وتلبي مصلحتها.
هذه القوة هي التي تراهن عليها إسرائيل في سوريا، كما في لبنان، لفرض الترتيبات التي تريدها، وتحت سقف هذه القوة دخلت في مفاوضات أمنية وديبلوماسية مع دمشق للتوصل إلى اتفاق، تريده دمشق أن يكون شبيهاً باتفاق 1974، بينما تصرّ إسرائيل على تجاوزه والاحتفاظ بمواقع استراتيجية كنقطة مرصد جبل الشيخ، إضافة إلى تحديد منطقة “شبه عازلة” عسكرياً، أي لا وجود فيها لقوات عسكرية بأسلحة ثقيلة.
منذ أيام، بدأت سوريا سحب أسلحتها الثقيلة من الجنوب السوري. كان ذلك تمهيداً للتوصل إلى الاتفاق حول السويداء، الذي جرى الإعلان عنه بين سوريا، الأردن والولايات المتحدة الأميركية. وكذلك، كان تمهيداً لإمكان التوصل إلى اتفاق أمني مع إسرائيل، خصوصاً في ضوء المعلومات التي تتحدث عن لقاء بين وزير الشؤون الاستراتيجية رون ديرمر، ووزير الخارجية السوري أسعد الشيباني في العاصمة البريطانية، لندن، واجتماع أمني سوري- إسرائيلي في اذربيجان للتوصل الى اتفاق نهائي في شأن اتفاق الترتيبات الأمنية بين الطرفين، في ظل سعي أميركي إلى توقيع هذا الاتفاق، على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي سيشارك فيها الرئيس السوري أحمد الشرع، وستكون له لقاءات عديدة أبرزها مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
وتتضارب المعلومات في شأن حتمية التوصل إلى توقيع الاتفاق. كما لم تتأكد جدولة أي موعد للقاء بين الشرع ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. وبحسب المعلومات، فإن الشرع لا يريد عقد لقاء مع نتنياهو، في ظل حربه المستمرة على المنطقة، والمجازر التي يرتكبها في غزة، والضربات التي يستهدف بها الدول العربية والاعتداءات المستمرة على سوريا والعدوان على دولة قطر.
كل ذلك يأتي في ظل سعي دول عديدة للدخول إلى سوريا. فالصين لديها مشاريع طموحة جداً هناك، وثمة شركات صينية أجرت دراسات على تشغيل خطوط السكك الحديد. وأما روسيا فتسعى إلى الحفاظ على قواعدها ومكتسباتها ووجودها في مرفأ اللاذقية. وفي هذا السياق، جاءت زيارة الوفد الروسي أخيراً إلى دمشق، حيث التقى الشرع ووجه إليه دعوة لحضور ملتقى الأعمال بين سوريا وروسيا. ومن بين ما تفاوض عليه موسكو أيضاً، استمرار انتشار قواتها العسكرية في قاعدة حميميم، إضافة إلى نشر قوات روسية في مناطق الساحل السوري، بالتفاهم مع دمشق، لما يصب في خانة طمأنة العلويين. لكن ذلك يفتح مجالاً لدمشق كي تفاوض روسيا على تسليم الكثير من المعلومات والوثائق التي تدين بشار الأسد لمحاكمته. عملياً، إن احتفاظ روسيا بقواعدها في سوريا ُيقابله تجنب موسكو مطالبة دمشق بالديون المتوجبة على سوريا. والمعلومات التي تحصل عليها سوريا من روسيا حول الأسد تجنبها المطالبة بتسليمه. أما استمرار انتشار القوات الروسية في الساحل السوري، فيفترض أن تكون تحت سقف وحدة سوريا وعدم إفساح المجال في الساحل السوري للقيام بأي خطوة انفصالية أو عسكرية مشابهة لما حصل في السويداء.
قبيل الزيارة الروسية لسوريا، كانت المعلومات تتحدث عن تحضيرات في الساحل السوري للقيام بتحرك أمني وعسكري مشابه لما جرى في السويداء وللمطالبة بالانفصال عن سوريا أو بإقامة إدارة ذاتية. في المقابل كانت دمشق ترسل تعزيزات عسكرية كبيرة إلى تلك المنطقة تحسباً لإقدام ضباط وعناصر محسوبين على نظام بشار الأسد على القيام بخطوة عسكرية لإخراج القوات التابعة لدمشق من المنطقة. في هذا السياق، تكشف مصادر متابعة أن دمشق طلبت من فصائل عديدة الخروج من الساحل، مقابل تثبيت نقاط وقواعد لقوات الأمن العام، إضافة إلى إرسال قوات من الجيش السوري إلى المنطقة.
لكن ذلك لا يعني أن الأمور مستتبة، بل هناك مؤشرات كثيرة تفيد بأن الأمور في الساحل لا تزال في حالة ترقب وانتظار لاحتمال حصول أي تطور، وسط معلومات تشير إلى تواصل روسي- إسرائيلي، ومعلومات أخرى تتحدث عن محاولات تنسيق بين مجموعات من الطائفة العلوية، ومن قوات سوريا الديمقراطية، مع قوات درزية في السويداء، لقيام هذه الجهات الثلاث بتحركات متزامنة ضد الشرع في محاولة لإضعافه، وإخراج المناطق الثلاث عن سيطرة دمشق. وفي هذا السياق، تكشف مصادر متابعة أن هناك محاولات عديدة لتسليح مجموعات في جبال العلويين وفي منطقة سهل الغاب.
ولكن، في المقابل، هناك من يشير إلى أن واشنطن سترفض أي تنسيق روسي- إسرائيلي حول سوريا، ولن تسمح لإسرائيل بأن تتعاون مع روسيا في سبيل إفقاد دمشق سيطرتها على الساحل. وهذه الرؤية الأميركية ستتعزز أكثر من خلال الضغط في سبيل انجاز الاتفاق الأمني السوري- الإسرائيلي، ومن خلال انجاز اتفاق السويداء، الذي يفترض تطبيقه برعاية أميركية، ستسير على إيقاع التفاوض الإسرائيلي- السوري وما ستنتجه هذه المفاوضات.
في هذا السياق، من الواضح أن الرعاية الأميركية- التركية والعربية، ولا سيما السعودية، للشرع قائمة. وكل المساعي تصب في سياق تثبيت حكمه. فأميركا تريد لنفوذها أن يكون كاملاً متكاملاً في سوريا كما في لبنان. وهي تسعى إلى توسيع نطاق نفوذها “العسكري” باتجاه وسط وغرب سوريا وعدم الاكتفاء بشرق سوريا، ليس بالضرورة من خلال إرسال قوات أميركية بل من خلال توسيع نفوذ قوى سورية مدربة ومجهزة أميركياً، إلى جانب معلومات أخرى تفيد بسعي واشنطن إلى إقامة قاعدة عسكرية في مطار الضمير العسكري. وذلك لا ينفصل عن مضمون اتفاق السويداء، الذي يعني قطع أي طريق على فكرة “الممر إلى السويداء”، والإصرار على فتح طريق السويداء- دمشق. فهذا بمعناه الأبعد يعني سيطرة دمشق برعاية أميركية على طريق الـM5 الذي يربط جنوب سوريا بشمالها.
هذا الطريق يمثل أهمية استراتيجية لجهات إقليمية عديدة، ويمكن أن يجعل سوريا ممراً أساسياً لطرق التجارة على المستوى المنطقة، وهو ما ألمح إليه الشرع في لقاءات وتصريحات سابقة. ويمثل خط الـM5 أهمية استراتيجية للسعودية مثلاً. فهي تعتبر أنها وفرت ممراً جديداً للتجارة من أراضيها في اتجاه الأردن إلى سوريا ومنها إلى تركيا وأوروبا، أو في اتجاه الساحل السوري ومن المرافئ السورية في اتجاه أوروبا. وبذلك يتم تجنّب المخاطر التي تنجم في البحر الأحمر، وهذا حتماً سيستدعي معالجة الوضع في الساحل السوري بالكامل، بالتفاهم مع الأميركيين، الروس والأتراك.