تطور أمني لافت… سقوط “البطاقة الذهبية” في لبنان

تطور أمني لافت… سقوط “البطاقة الذهبية” في لبنان

الكاتب: طوني بولس | المصدر: اندبندنت عربية
19 أيلول 2025

باتت قضية حصر السلاح في لبنان عنواناً ضاغطاً لا يحتمل المماطلة، إذ ربطت العواصم العربية والدولية أي دعم مالي بجدية الدولة في تنفيذ الخطة الأمنية، في هذا الإطار، دخلت الإجراءات حيّز التطبيق عبر إبطال “البطاقة الذهبية” التي لطالما منحت عناصر “حزب الله” امتياز المرور بلا تفتيش، لتتحول اليوم إلى دليل إدانة يستوجب المصادرة والتوقيف.

لم يعد لبنان يملك ترف الانتظار أو المناورة، فالمهلة تضيق، وكل ما طُرح للخروج من الأزمة المالية والسياسية لم يعد ممكناً أن يكتمل من دون التقدم في ملف حصر السلاح بيد الدولة، هذه الحقيقة لم تعد موضع نقاش داخلي فقط، بل صارت شرطاً صريحاً يفرضه المجتمعان الدولي والعربي معاً، في تقاطع نادر للمصالح بين الداخل والخارج، فاللبنانيون الذين يرزحون تحت ثقل الانهيار الاقتصادي، والعواصم العربية والدولية التي تربط أي دعم مالي بمسار واضح للسيادة، والقوى الدولية التي ترى أن استمرار الاستثناءات الأمنية يعني خطر مواجهة جديدة مع إسرائيل، جميعهم اليوم يجتمعون على معادلة واحدة تؤكد على ألا عودة للبنان إلى الاستقرار قبل أن تنحصر القوة المسلحة بيد الدولة.

وفي هذا السياق، كشفت صحيفة “نيويورك تايمز”، أن إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب حذرت القادة اللبنانيين بوضوح من أن “الوقت ينفد” لنزع سلاح “حزب الله”.

التحذير لم يكن توصية عابرة بل رسالة إنذار مبكر، مفادها بأن تأخير تنفيذ القرار بسرعة، يعني أن لبنان سيخسر الدعم المالي العربي والأميركي، وسيتعرض لخطر تجدد حملة عسكرية إسرائيلية قد تكون أوسع من كل ما سبقتها، ومن هنا جاء تبني الحكومة خطة الجيش ذات المراحل الخمس، التي رُسمت لتكون مساراً تدرجياً مضبوطاً، لكنه أيضاً مرتبط بسقف زمني محدّد لا يتجاوز نهاية عام 2025 الحالي.

صيغة “ملبننة”

وفي سياق تنفيذ ما أقرته الحكومة، يكشف مصدر أمني لبناني أن قرار حصر السلاح دخل حيز التنفيذ في إجراءات كثيرة وبأسلوب بعيد عن الإعلام كي لا يتسبب بحساسية ورد فعل “شعبي”، لافتاً إلى أن إبطال العمل بما عُرف لعقود بـ”البطاقة الذهبية”، وهي البطاقة التي تمنحها عادة وحدة الارتباط والتنسيق التابعة لـ”حزب الله” لعناصره والمقربين منه، لم تكن رسمية في القانون، لكنها كانت نافذة في الواقع، إذ كان يكفي إشهار البطاقة على حاجز للجيش اللبناني أو قوى الأمن الداخلي لفتح الطريق وإعفاء حاملها من أي تفتيش أو تدقيق، وعلى مدى أكثر من 20 عاماً، صنعت هذه البطاقة حالة استثنائية اختزلت فكرة الدولة نفسها: مواطنون يخضعون للقانون والتفتيش، وآخرون يعبرون بلا مساءلة لأن بطاقة حزبية تحميهم.

الأمن الموازي

ومع إطلاق خطة “حصر السلاح”، أُعلن بوضوح أن زمن الامتيازات انتهى، وأي إبراز لهذه البطاقة اليوم يعني مصادرتها فوراً، وحتى الفصائل الفلسطينية التي كانت تمتلك امتيازات مماثلة فقدت الغطاء، فلم تعد هناك معابر مفتوحة إلا من خلال الدولة، ولا بطاقات إلا تلك التي تصدر رسمياً عنها.

يرى متابعون أن هذا الإجراء يعني أن “حزب الله” فقد أداة لوجيستية حساسة طالما استفاد منها في لحظات التوتر لنقل عناصر أو معدات بعيداً من أعين المؤسسات الرسمية، فيما يشكل القرار سياسياً سقوط ورقة قوة كان الحزب يمتلكها، وأول اختبار حقيقي لهيبة الدولة وقدرتها على فرض المساواة أمام القانون.

ويذكر أن الجيش اللبناني كان قد جمد في أواخر 2023 بطاقات تسهيل المرور الرسمية بعد سوء استخدام موثق، وأعاد إصدارها لاحقاً ضمن معايير أكثر صرامة، منعاً لتحول الامتياز الشرعي إلى جسر مواز.

ومع ذلك، يبقى التحدي الأكبر في القدرة على تنفيذ خطة الحصر بخمس مراحل متتالية: وقف انتقال السلاح داخل الأراضي اللبنانية، وإلغاء البطاقات غير الرسمية بالكامل، وضبط الحدود والمعابر بالتنسيق مع قوات “اليونيفيل” جنوب الليطاني، ومعالجة بؤر السلاح تدرجاً في المخيمات والأحياء الحساسة، ورفع تقارير شهرية إلى مجلس الوزراء لإثبات تقدم ملموس قبل نهاية العام.

آلاف البطاقات

تشير تقديرات الأجهزة إلى أن عدد ما كان يُعرف بـ”البطاقات الذهبية” الصادرة عن اللجنة الأمنية التابعة للحزب يقترب من نحو 2000 بطاقة، هذه البطاقات ازدهرت بعد عام 2006 وارتفع انتشارها بصورة ملحوظة، ولا تستطيع دوائر الدولة وحدها أن تُحصي العدد الحقيقي لأن إصدارها وتنظيمها كانا من اختصاص الحزب حصراً، وهي كانت سارية المفعول في سوريا أيضاً في عهد نظام الرئيس السابق بشار الأسد.

وتشير المعلومات إلى أنه في الأساس كان هناك اتفاق يفترض أن يزود “حزب الله” غرفة العمليات المشتركة مع الجيش بقوائم بالأسماء المخولة لاستلام هذه البطاقات، وكان المقترح أن تدار آلية الإصدار عبر غرفة عمليات مشتركة بين الجيش والحزب، لكن ذلك لم يتحقق عملياً تحت ذرائع أمنية للحزب لا سيما بعد مشاركته في الحرب السورية، لذا قد تكون الأرقام الفعلية أعلى من التقديرات الرسمية.

أما بطاقات التسهيل الخاصة بالفصائل الفلسطينية، فوفقاً لتقديرات أمنية فهي تقترب من نحو 500 بطاقة، وكانت تعمل كـ”هوية مرور” لعناصر الفصائل الفلسطينية داخل المخيمات وخارجها.

تضييق نفوذ “حزب الله”

يرى المحلل السياسي علي سبيتي، أن القرار بعدم سريان ما يُعرف بـ”البطاقة الذهبية” كما كان معمولاً به سابقاً، يأتي في سياق سلسلة إجراءات متتالية تتخذها السلطة اللبنانية للحد من نفوذ الحزب داخل مؤسسات الدولة.

وأوضح أن هذا الإجراء ليس معزولاً، بل يندرج ضمن مسار بدأ من مطار رفيق الحريري في العاصمة بيروت، مروراً ببعض التعيينات الأساسية في الجسمين القضائي والأمني، وصولاً إلى خطوات أخرى مرجحة في المرحلة المقبلة، وهو ما يعبر عن توجه داخلي، مدعوم بضغط خارجي، لإعادة رسم حدود السلطة داخل مؤسسات الدولة.

وأشار إلى أن هذه القرارات تحمل بصمة واضحة للشروط الأميركية، حتى وإن لم تكن مكتوبة بصورة رسمية، فهي جزء من “الرزمة” التي يُفترض على لبنان الالتزام بها في سبيل الحصول على دعم سياسي واقتصادي من واشنطن والدول الغربية، واعتبر سبيتي أن الهدف المركزي يتمثل في تجفيف مصادر نفوذ “حزب الله” داخل الدولة، وفتح الطريق أمام “تصحيح المسار السياسي” وفقاً لمعادلات جديدة تتصل بمصالح الخارج وبمحاولة ترميم مبدأ حصرية السلاح تحت سقف الدولة.

وبرأي سبيتي، فإن الخطوات المتخذة اليوم يمكن أن تُقرأ كمؤشر أولي على بداية تراجع نفوذ “حزب الله” داخل السلطة، وهو مسار قد يتواصل بإجراءات أخرى في الفترة المقبلة.

اختبار صعب

في السياق يشير الكاتب الصحافي أسعد بشارة، إلى أن المرحلة المقبلة حتى نهاية 2025 ستكون بمثابة سباق مع الزمن، إذا نجح لبنان في التقدم بهدوء على طريق التنفيذ، فسيُفتح الباب أمام عودة التمويل والإعمار، ويعزز موقع الجيش كشريك وحيد للأمن، أما إذا عادت الاستثناءات واستُعيدت البطاقات، فسيدخل البلد مجدداً في حلقة التأجيل والوساطات، ما قد يعرضه لمزيد من الضغوط الخارجية وربما لتصعيد عسكري جديد.

وبرأيه، فإن المشهد اللبناني بات أمام مرحلة ضاغطة بكل المقاييس، الخارج يذكره بأن المهل تضيق، والداخل يربط مصيره بالقدرة على الانتقال من دولة مزدوجة إلى دولة واحدة.

واعتبر، أن سقوط البطاقة الذهبية وإلغاء وثائق الاتصال، القرار الذي اتخذه سابقاً رئيس الحكومة نواف سلام، هما علامتان فارقتان في هذا الطريق، لكن الاختبار الحقيقي لم يُحسم بعد.

ما ستشهده الأشهر المقبلة سيقرر إن كان لبنان سيثبت أنه قادر على التحول إلى دولة بقرار واحد، أم أنه سيظل عالقاً في مساحة رمادية تعيد إنتاج المأزق نفسه، وفي الحالين، الزمن لم يعد عنصراً محايداً، بل صار اللاعب الأكثر قسوة على طاولة السياسة اللبنانية.

قرار من “الحزب” وليس الحكومة

في المقابل، رأى الصحافي والمحلل السياسي قاسم قصير، أن قرار وقف العمل بما يُعرف بالبطاقات الخاصة لم يكن ناتجاً عن خطوة حكومية، بل جاء بمبادرة من “حزب الله” نفسه، في إطار عملية داخلية شاملة لإعادة تقييم وضعه الأمني، وأوضح أن الحزب اتخذ هذا القرار خشية حصول اختراقات إسرائيلية محتملة، بعدما كشفت التقييمات الأمنية عن وجود بعض الثغرات التي كان لا بد من معالجتها سريعاً.

وأضاف أن ما حصل ليس أمراً جديداً أو مفاجئاً، بل يندرج ضمن نهج يتبعه الحزب بصورة دورية بعد كل مواجهة أو تطور ميداني، حيث يعمد إلى مراجعة منظومته الأمنية وإغلاق أي منفذ يمكن أن يشكل نقطة ضعف.

من هنا، فإن وقف البطاقات جاء كجزء من “تحصين داخلي” يتكامل مع جملة خطوات أخرى اتخذها الحزب في الأوان الأخيرة.

وأشار إلى أنّ “حزب الله” اتخذ منذ اندلاع الحرب الأخيرة، وتحديداً منذ الـ27 من نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، سلسلة إجراءات شاملة لإعادة ترتيب منظومته الأمنية والعسكرية، ولفت إلى أن هذه الخطوات لم تبدأ بعد الحرب وحسب، بل رافقتها أيضاً خلال فترة المواجهات، وتوزعت على مستويات عدة: أمنية، وعسكرية، واتصالية، وجميعها تهدف إلى سد الثغرات ومعالجة نقاط الضعف التي قد تستغلها إسرائيل في أية مواجهة مقبلة.

وأكد أن هذا المسار ليس جديداً على الحزب، بل يشكل امتداداً لإستراتيجية قديمة تقوم على التكيف المستمر مع الظروف المتغيرة، لكنه شدد في الوقت نفسه على أنّ المعلومات المتوافرة لديه تبقى في الإطار العام، من دون تفاصيل خاصة أو محددة حول طبيعة هذه الإجراءات أو نتائجها المباشرة.

مصير “وحدة الارتباط والتنسيق”

وفي سياق مواز، يكشف مصدر شيعي معارض، فضل عدم الكشف عن اسمه، أن وحدة الارتباط والتنسيق التي يقودها وفيق صفا تقف اليوم أمام مصير غير مسبوق، وبحسب المصدر، فإن الحزب يتجه بالفعل إلى حل هذه الوحدة بالكامل، في إطار إعادة هيكلة داخلية فرضتها التطورات الأخيرة، بعدما بات استمرارها بصيغتها القديمة أمراً غير ممكن بخاصة بعدما سحبت الدولة الغطاء عنها ولم تعد تعترف بأي امتيازات استثنائية.

ويضيف المصدر أن التنسيق الذي كان قائماً بين الحزب وأجهزة الدولة عبر هذه اللجنة لم يعد يشكل امتيازاً أو آلية شبه رسمية، بل تقلص ليصبح اتصالات محدودة وعابرة لا تختلف عن تعامل الأجهزة مع أي مواطنين آخرين ضمن القانون.

ويرى أن الحزب بصدد إعادة توزيع صلاحيات “وحدة صفا” على دوائر أمنية بديلة تعمل بسرية أكبر، مع إبقاء قنوات خلفية غير معلنة مع بعض الضباط، كما جرت العادة في المحطات الحرجة.

لكن الطابع المؤسساتي العلني للجنة الارتباط يبدو أنه انتهى أو في الأقل دخل مرحلة الاندثار، على حد تعبيره.

أما بالنسبة إلى سلاح “حزب الله” الإستراتيجي، فيؤكد المصدر أن المسألة أعقد بكثير من إلغاء بطاقات أو حل لجنة، فالحزب لا يزال يحتفظ بترسانة صاروخية ضخمة وخبرة قتالية راكمها على مدى عقود، وقد أعلن بوضوح أنه لن يسلم سلاحه طوعاً إلا بعد الاتفاق على ما يسميه إستراتيجية دفاعية وطنية.

ويرجّح المصدر أن المرحلة المقبلة ستكون مرحلة عض أصابع ومفاوضات قاسية خلف الكواليس، مع رهان الحزب على متغيرات إقليمية، سواء وقف محتمل للحرب مع إسرائيل أو تبدل في الموقف الأميركي بعد الانتخابات، تخفف الضغط عنه وتتيح له الاحتفاظ بسلاحه تحت صيغة ما.