وصاية دولية لمزارع شبعا وتلال كفرشوبا؟

وصاية دولية لمزارع شبعا وتلال كفرشوبا؟

الكاتب: د زياد ضاهر | المصدر: المدن
19 أيلول 2025

شكل استمرار الاحتلال الإسرائيلي لمزارع شبعا وتلال كفرشوبا مسوّغًا لشرعيّة المقاومة اللبنانيّة للاحتلال (وفي مقدّمتها حزب الله وسلاحه) خصوصاً بعد العام 2000 كوسيلة لاستعادة ما تبقّى من الأراضي المحتلّة والدفاع عن السيادة اللبنانيّة، إلّا أنّ المعطيات على الأرض منذ سنوات تُظهِر تغيّر الأولويّات وانتفاء دور المزارع كسبب فعلي لاستخدام السلاح.

بقيت قضية المزارع أسيرة الأجندات الإقليمية منذ تحرير الجنوب عام 2000، ولم يسمح بطروحات مغايرة مثل وضع المزارع تحت وصاية دوليّة كحلّ يُحرّر هذه القضيّة من بازار المزايدات السياسيّة، ويضعها خارج نطاق الاستخدام كذريعة دائمة لتبرير احتفاظ جهة لبنانيّة بسلاحها خارج إطار الدولة، ويُؤمّن موقفًا أفضل للدولة اللبنانيّة بالمقارنة مع واقعها المنقسم بين دور الدولة المفقود ودور الدويلة المهيمن.

الوصاية الدوليّة كحلّ تاريخي لقضيّة المزارع

لقد طُرِح وضع مزارع شبعا وتلال كفرشوبا تحت وصاية الأمم المتحدة كأحد الحلول الدبلوماسيّة منذ ما بعد انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان عام 2000. وبالفعل، بعد حرب تموز/يوليو 2006، طرحت الحكومة اللبنانيّة ضمن خطّة “النقاط السبع” مقترحًا مبتكرًا يقضي بوضع مزارع شبعا وتلال كفرشوبا تحت وصاية أو ولاية الأمم المتحدة بشكلٍ مؤقّت.

وتقوم الفكرة على أن تنسحب إسرائيل من المنطقة المحتلّة ويُسلَّم التحكّم بها إلى الأمم المتحدة لحين حلّ الخلاف الحدودي وتثبيت السيادة اللبنانيّة بشكل نهائي. عمليًّا، هذا يعني إعلان مزارع شبعا وتلال كفرشوبا منطقة منزوعة السلاح تحت إدارة أُمميّة، ربّما من خلال توسيع نطاق قوّات اليونيفيل أو إنشاء إدارة خاصّة تُشرف على الأرض وتضمن حقوق المالِكين اللبنانيّين (وهم من أبناء بلدة شبعا والوقف الإسلامي السنّي والأرثوذكسي) في الوصول إليها، مع السماح لهم بدخولها ريثما تُحدَّد هويّتها النهائيّة، مع تأكيد لبنان على حقوقه السياديّة في استغلال موارد المنطقة الطبيعيّة (كالمياه).

إنّ فكرة الوصاية الدوليّة تعني عمليًّا إخراج المزارع من حالة الفراغ القانوني: فهي أرض لبنانيّة بموجب الوثائق والخرائط، لكنّها بحكم الأمر الواقع ما زالت ضمن نطاق النزاع بسبب الاحتلال الإسرائيلي وعدم ترسيم الحدود مع سوريا. لذا، يمكن لإدارة أُمميّة مؤقّتة أن تكسر الجمود، بحيث تنسحب إسرائيل من المزارع دون حسم نهائي للسيادة لحين اتفاق لبنان وسوريا، وبذلك يُنزَع فتيل هذا النزاع الحدودي الطويل الأمد.

إخراج مزارع شبعا من بازار السياسة والسلاح

على مدى عقود، مثّلت قضيّة مزارع شبعا وتلال كفرشوبا بُعدًا وطنيًّا يُوحِّد الموقف الرسمي والشعبي خلف مطالبة مشروعة باستكمال تحرير الأراضي المحتلّة. وقد أشرنا إلى أنّ الدولة اللبنانيّة اعتبرت هذه الأراضي أرضًا لبنانيّة يحقّ للبنان العمل على تحريرها بكافّة الوسائل المشروعة. لكنّ المفارقة بدأت بعد تحرير الجنوب عام 2000، إذ استخدمت جهة لبنانيّة مسلّحة (حزب الله) بقاء المزارع تحت الاحتلال كحجّة رئيسيّة للاحتفاظ بسلاحها ضمن ما عُرِف بـ”ثلاثيّة الجيش والشعب والمقاومة“.

بهذا المعنى، أصبحت المزارع ورقة سياسيّة محلّيّة وإقليميّة أيضًا، تتجاوز قيمتها الجغرافيّة لتُصبح ذريعة استراتيجيّة تُبرّر استمرار دور سلاح المقاومة في مرحلة السّلم غير المستقر بعد عام 2000.

لقد أتاحت هذه الذريعة لحزب الله توليفة من الشرعيّة الوطنيّة والدوليّة:

– وطنيّة، كون الجميع يُقرّ بلبنانيّة المزارع وحقّ تحريرها.

– ودوليّة، عبر القول إنّ القرارات الدوليّة نفسها تعترف بحقّ مقاومة الاحتلال.

فمثلًا، رغم أنّ الأمم المتحدة اعتبرت الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان مكتملًا عام 2000 باستثناء المزارع (باعتبارها ضمن الجولان السوري المحتلّ وفقًا للخط الأزرق)، بقي الموقف اللبناني ثابتًا على لبنانيتها.

العدو الإسرائيلي ادّعى أنها سورية، وأنّ الدولة اللبنانيّة تقول بسيادتها على المزارع لتُبرّر نشاط حزب الله في الجنوب. والنظام السوري امتنع عن حسم ترسيم الحدود، ما أبقى الوضع معلَّقًا. فالتقاء مصالح عدّة أطراف إقليميّة أبقى مزارع شبعا قضيّة “معلّقة” تخدم حسابات إيرانيّة وسوريّة وإسرائيليّة عبر إبقاء سلاح حزب الله مشروعًا بعيون جزء من اللبنانيين.

من هذا المنطلق، فإنّ إخراج المزارع من التداول الداخلي عبر حلّ دولي سيُنهي استخدام القضيّة كسلاح سياسي. فلا يمكن لطرف لبناني أن يستأثر بمسألة وطنيّة كهذه لتبرير حالٍ مناقضة لمنطق وجود دولة. إنّ رفع الوصاية الداخليّة عن قضيّة المزارع ووضعها تحت وصاية أُمميّة سيُحرِّر القرار الوطني اللبناني من هذه العقدة، وسيُنزع ورقة طالما استُخدِمت للتهويل بالحرب أو السِّلم بمعزلٍ عن إرادة الدولة اللبنانيّة.

سقطت الذريعة

بالعودة للوقائع الميدانيّة، يتبيّن بوضوح أنّ قضيّة مزارع شبعا فقدت زخمها كذريعة عسكريّة. فابتداءً من عام 2011، عندما قرّر حزب الله التدخّل عسكريًّا في سوريا لمساندة النظام السوري السابق، دخل الحزب في حرب لا صلة لها بمزارع شبعا ولا بالصراع مع إسرائيل، مُعلّلًا تدخّله بدوافع أمنيّة وطائفيّة وحماية للنظام السوري.

هذا التحوّل شكّل انعطافة كبرى في وظيفة سلاح حزب الله: من مقاومة احتلال إسرائيلي إلى الانخراط في نزاع إقليمي داخل دولة عربيّة شقيقة. عدا عن الأدوار المعروفة في العراق واليمن ومصر وغيرها من الساحات التي ساهم فيها سلاح الحزب مساهمات كبيرة لصالح ارتباطاته الإقليميّة بما يُسمّى “محور الممانعة. منذ تلك اللحظة، توسّعت أجندة سلاح الحزب خارج إطار الصراع اللبناني مع العدو الإسرائيلي، ما أضعف منطقيًّا حجّة استمرار تسلّحه بهدف تحرير المزارع.

ذروة سقوط هذه الذريعة برزت بعد 7 تشرين الأوّل/أكتوبر 2023 إثر اندلاع حرب غزّة الأخيرة، حيث أعلن الحزب انطلاق “حرب الإسناد” لغزّة ولم تكن حرب تحرير الأراضي المحتلّة. هنا أيضًا، لم يأتِ أيّ ذكر لمزارع شبعا وتلال كفرشوبا كدافع للتحرّك، أي أنّ سلاح حزب الله استُخدم مجدّدًا خارج سياق قضيّة المزارع تحديدًا. بذلك انتفت نهائيًّا الحجّة القائلة إنّ سلاح المقاومة مخصّص حصريًّا لتحرير ما تبقّى من أرضٍ محتلّة؛ فالأحداث برهنت أنّه يُستخدم ضمن حسابات تتجاوز قضيّة لبنان وأراضيه.

نحن أمام حقيقة واضحة: استمرار ربط سلاح فصيل لبناني بقضيّة المزارع ما هو إلّا ذريعة استُنفِدت أغراضها.

فلم تعد المزارع سببًا مباشرًا لأيّ توتّر عسكري، بل باتت شعاراتها تُرفع حين الحاجة السياسيّة داخليًّا للحفاظ على وضع قائم أو مكاسب. بل وأصبح السلاح أداة تغلّب على اللبنانيّين والدولة.

حقّ الدفاع عن النفس حصرًا للدول

على الصعيد المبدئي والقانوني، إنّ الدفاع عن السيادة والأرض هو واجب وحقّ حصري للدولة ومؤسّساتها الشرعيّة. وهذا ما يلتقي مع موقف الحكومة اللبنانيّة الحاليّة الداعي لحصريّة السلاح بيد الدولة. القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة واضحان في حصر حقّ استخدام القوّة المسلّحة بالدول ذات السيادة. المادّة 51 من ميثاق الأمم المتحدة تنصّ صراحةً على “الحقّ الطبيعي للدول، فرديًّا أو جماعيًّا، في الدفاع عن نفسها إذا تعرّضت لاعتداء مسلّح. أي أنّ هذا الحق لا يشمل كيانات خارجة عن إطار الدولة أو ميليشيات موازية للجيش الرسمي.

من هذا المنطلق، لا يمكن منح شرعيّة دوليّة لأيّ سلاح خارج سلطة الحكومة اللبنانيّة. وإن كانت المقاومة ضد الاحتلال حقًّا مشروعًا، فإنّما تُمارسه الدولة عبر جيشها، أو عبر ما تقرّه هي من وسائل مشروعة، وليس حزبًا مسلّحًا يتفرّد بقرار الحرب والسِّلم.

لقد أكّد المجتمع الدولي مرارًا هذا المبدأ في الحالة اللبنانيّة تحديدًا، فقرارات مجلس الأمن 1559 (2004) و1701 (2006) شدّدت على بسط سلطة الدولة اللبنانيّة على كامل أراضيها وحصر السلاح بيدها وحدهاوجاء في القرار 1701: “لا سلاح خارج إطار موافقة الحكومة اللبنانيّة، ولا سلطة غير سلطتها.

إذًا، إنّ وضع مزارع شبعا وتلال كفرشوبا تحت الوصاية الدوليّة بات اليوم ضرورة وطنيّة مُلحّة. هذا الحلّ يسمح بتحرير القرار اللبناني من عبء ذريعة مستهلكة، ويُعيد القضيّة إلى إطارها الطبيعي كقضيّة حدوديّة قابلة للحلّ القانوني. علينا كلبنانيين أن ندرك أنّ السيادة لا تُصان بازدواجيّة القرار العسكري، فالدولة بشعبها وجيشها ومؤسّساتها وحدها من يحقّ لها قيادة معركة استكمال التحرير. وضع المزارع تحت وصاية الأمم المتحدة لفترة انتقاليّة، يُنهي بازار الاستقطاب السياسي، ويُعيد قضيّة المزارع لتكون نقطة إجماع وطني، لا مادّة نزاع داخلي أو إقليمي.