اغتيال السيد حسن وعلامات الظهور… خمسة أيام قبل الانفجار الكبير

اغتيال السيد حسن وعلامات الظهور… خمسة أيام قبل الانفجار الكبير

الكاتب: نجم الهاشم | المصدر: نداء الوطن
20 أيلول 2025

في 23 أيلول 2024 دخلتُ إلى المستشفى من أجل علاج من تداعيات التهابات جراء عملية جراحية. كانت مضت ستة أيام على تفجيرات البيجر التي أدّت إلى جرح نحو ثلاثة آلاف عنصر من “حزب الله”. وضعت في غرفة في المستشفى وكان إلى جانبي في السرير الآخر عنصر من “الحزب” مصاب بعينيه ويديه وبطنه.

تناولت في الحلقة الأولى طريقة الدخول بينما كانت الحرب بين “حزب الله” وإسرائيل بدأت تتمدّد وتتوسّع قبل أن تصل إلى اغتيال السيد حسن نصرالله أمين عام “الحزب” في 27 أيلول. في هذه الحلقة الثانية كيف مضت الأيام الخمسة قبل الاغتيال.

كانت ستارة من القماش تفصل بين السريرين والعالمين المختلفين للحفاظ على الخصوصية ولكن الفصل لم يكن تامًّا. عندما تُفتح الستارة نصير عالمًا واحدًا وفضاءً واحدًا مفتوحًا على كثير من الانتظارات والانكسارات والاختلافات والأمل. غرفة صغيرة كانت بحجم وطن وبقدر وطن وشعب، ولكن بمكونات مختلفة بينها ستائر كثيرة أيضًا تنفتح على عالم واحد بتناقضاته الكثيرة. في أجواء المعارك والحرب كان كثير من القلق والتساؤلات عن المستقبل، وقليل من الأسئلة بين عائلتينا وزوّارنا. وائل الجريح بتفجيرات البيجر وأنا الخاضع لعلاج بعد عملية جراحية.

كانوا، عائلة وائل، يسكنون في أحد أحياء الضاحية الجنوبية التي كان لكلّ حيّ فيها طابعه الخاص، بين الحداثة والبنايات الضخمة والشقق الواسعة والمحلات التجارية والمقاهي، وبين الشوارع التي يصعب أن تمرّ فيها السيارات في أحياء شعبية. الضاحية أيضا طبقات. كان واضحًا أنّهم من أحد هذه الأحياء. نتيجة بدء الحرب الموسّعة وتمدّد عمليات القصف إلى الضاحية لم يعد في إمكانهم الذهاب إلى منزلهم. في المساء صار يغادر الوالد والوالدة نحو العاشرة ليلًا إلى بيت أقارب لهم خارج الضاحية، ويبقى إلى جانب وائل شقيقه وشاب أو أكثر من أقاربه. ربّما حماية له عبر ملازمته في الليل والنهار، ولسبب آخر بات يتعلّق بعدم رغبتهم في الذهاب إلى البيت تجنّبًا للتعرّض للإصابة في القصف، واعتبارهم أن الغرفة في المستشفى باتت المكان الأكثر أمانًا للبقاء فيه في الليل والنهار. ولذلك تحوّلت غرفة المستشفى إلى ملجأ للمقرّبين من وائل. تحوّل الحمّام إلى مكان للوضوء، والغرفة إلى مصلّى وصالة للطعام والتسامر حتى آخر الليل.

التعبئة الصحية تقرّر

لم يكونوا يحبّون الاستماع إلى التلفزيون على رغم أخبار القصف والمعارك. كان التلفزيون الخاص بهم مطفأ بشكل عام، والتلفزيون الخاص بي على محطة إخبارية ولكن من دون صوت. كان وائل يحب الاستماع إلى ابتهالات دينية مسجّلة على هاتف خليوي. ولكنّه لم يمانع في خفض الصوت عندما طلبت منه ذلك.

يوم الثلثاء، أي بعد أسبوع على تفجيرات البيجر، وفي اليوم التالي لدخولي المستشفى، أتت ممرّضة لتبلغ العائلة أن لا سبب بعد يستدعي بقاء وائل فيه لأنّ وضعه صار مستقرًّا ويمكنه متابعة تلقّي العلاجات والأدوية في المنزل. ولكن العائلة لم تكن في هذا الوارد. إلى أين يمكن أن تذهب ويذهب وائل؟ أجرى الحاج، والد وائل، اتصالاته مع مسؤولين في “الحزب”. بعد الظهر كان الردّ على المستشفى. وائل لا يمكن أن يخرج. التعبئة الصحية في “الحزب” هي التي تقرّر متى يخرج.

بين المكابرة والاقتناع بقدر وائل كانت العائلة تعيش ظروفها القاهرة. ثمّة شعور بالامتنان لأنّه لم “يستشهد”، ولكن في الوقت نفسه كانت حتى والدته، تتمنّى له الشفاء حتى يعود ليقاتل و”يستشهد” ويلتقي صاحب الزمان، الإمام المهدي، والحسين والزهراء والسيدة زينب… ثمّة محاولة للتخفيف عنه ومن خطورة ما سيواجهه في المستقبل وعدم القدرة على استعادة بصره، ولكن في الوقت نفسه ثمّة حزن لا يقوى الوالد على إظهاره. كانت الشهادة مطلوبة كمدعاة للفخر بينما كان الموت العادي كأنّه مسألة غير مرغوبة خصوصًا في زمن الحرب.

بين إيران والعراق 

يوميًا، وعلى رغم الحرب، وفي أوقات محددة، كان مسؤولون في “الحزب” يجولون على من تبقى من مصابين وجرحى في المستشفى لمتابعة أوضاعهم الصحية والنفسية والمعيشية وإذا كانوا يحتاجون للمساعدة. كان وائل يتحرّك بصعوبة في السرير ولا يمكنه الانتقال إلّا بمساعدة شخص يوجّهه في سيره إلى الحمام أو إلى الممشى في الطابق.

الأربعاء والخميس ظهر ما يمكن اعتباره تململًا من الوالد. كانت حطّت طائرة إيرانية في مطار بيروت ونقلت عددًا من الجرحى في التفجيرات إلى إيران. ولم يكن وائل واحدًا منهم. لماذا لم يتم اختياره؟ سأل مسؤولين في “الحزب”. يُفهم من الأجوبة أنّهم قالوا له إنّ الطائرة نقلت الذين حالاتهم أخطر من غيرهم. وأنّ هناك طائرات أخرى ستأتي من إيران. ولكن فجأة تعرّض المطار للتهديد ومُنعت الطائرت الإيرانية من الهبوط. قالوا له إن طائرات ستأتي من العراق. ولكن كانت هناك تساؤلات عن قدرة المستشفيات في العراق على معالجة حالات من هذا النوع. كان الحاج يعترض. سأل من يتحدّث معه عن الأسباب. لم تُقنِعه الإجابات. قال مثلًا إنهم علموا بأنّه في الطائرة الإيرانية أُعطيت الأفضلية للذهاب فيها للمسؤولين في “الحزب” أو لأولادهم. بدا وكأنّ هناك نفيًا لمثل هذا الأمر. ولكن مع سقوط خيار الطائرات العراقية أيضًا مع تطور العمليات العسكرية والقصف، بات هناك خيار واحد أن يبقى وائل في المستشفى وأن تبقى عائلته إلى جانبه.

بين الأوهام والأحلام

لم يكن من الممكن الانتقال من الغرفة إلى غرفة أخرى. كل الأسرة مشغولة ولا يمكنك متابعة العلاج من المنزل. هذا كان الرأي الملزم للطبيب المعالج. الخميس ظهرت نتيجة زرع الخلايا لمعرفة نوع البكتيريا التي سببت لي هذه الالتهابات. كانت مشكلة مضافة. لم يتم تحديد نوع البكتيريا ولا يمكن تأجيل العلاج. يجب البدء بتلقي العلاج ومراقبة الاستجابة له من خلال فحص يومي للدم يُظهر تدنّي أو ارتفاع معدّل الالتهاب. المراجعات مع الإدارة لم تجدِ نفعًا. لا يوجد أي خيار آخر. ولا يوجد حلّ. “نحن عم نتحمّل وأنتَ بدَّك تتحمَّل. بتقطع”.

ثمة عالم آخر تعيش فيه الحالة التي يمثلها وائل وعائلته. لا يمكن فهمه إلا من خلال معايشته معه في غرفة واحدة. ما نعتبره أوهامًا وأحلامًا غير واقعية يعتبرونه واقعًا وحقائق دينية ووجدانية لا يمكن الجدال فيها. من هنا يمكن فهم حالات الاغتراب عن الواقع وعدم فهم كيف أن الآخرين لا يفهمون هذا الواقع أو ينكرونه أو يتجاهلونه أو يعارضونه، وتحوّل هذان الاغتراب وعدم الفهم إلى حالة عدائية. مع هذا الواقع المعيوش يصبح من يموت ميتة طبيعية في المرتبة الثانية. في المرتبة الأولى تأتي الشهادة. ثمة محاكاة لعالم نعتبره عالم غيب بينما يعتبرونه واقعًا. كيف يمكن أن تفهم مثلًا أن تسمع رواية عن أنّ أحد أقارب المصابين بتفجيرات البيجر كان في العراق في مرقد ديني واتصل بقريبه وطلب منه أن يحكي مع الإمام المهدي ويطلب منه الشفاء. ما لا يمكن أن نفهمه يدخل في صلب العقيدة الدينية والحياة المعيوشة.

رفض الذهاب إلى برج البراجنة

كانت لدى عائلة وائل مخاوف كبيرة من تصاعد العمليات العسكرية والقصف ولكن في الوقت نفسه كانت هناك آمال معلقة على قدرة “حزب الله” وشبابه على المواجهة. هكذا كانت سريعة ردة فعلهم إذا تحدّث أي كان عن الخسائر التي يتكبّدها “الحزب”. كان هناك إيمان بأن المقاتلين على الحدود سيدمّرون القدرات الإسرائيلية وأنّ “الحزب” لم يستخدم بعد أسلحته الاستراتجية ولا يزال يمتلك زمام المبادرة. ولكن في الوقت نفسه عندما عرض “الحزب” على العائلة أن ينتقل وائل إلى هنغار كبير، أو مستشفى ميداني، أنشأه  في برج البراجنة، رفضت الأمر لأنّ المكان لم يعد آمنًا. “ما مات بالانفجار منموت تحت القصف؟”.

تحوّلت الإقامة في الغرفة إلى كابوس. لا قدرة على النوم ولا على الأكل حتى مع المهدئات والأدوية اللازمة لذلك. ولم تُفلح طلبات الانتقال إلى غرفة أخرى. على رغم ذلك، وعلى رغم المسافات التي تفصل بين عالمينا، كان هناك التقاء إنساني مع وائل الذي سيعيش بقية حياته فاقدًا للبصر ولأصابع من يديه. لم يكن هناك إزعاج مباشر على المستوى الشخصي بل من الوضع العام في المستشفى وفي الغرفة. على العكس بقيت المعاناة مشتركة في الآلام وبقي الاحترام في التعامل ولكن من دون القدرة على وضع حدّ لتخطي القوانين المعمول بها في المستشفى.

يا عدرا ويا زهراء

ظُهرَ يوم الجمعة ومع إصراري على مغادرة المستشفى، نزل الطبيب المعالج عند رغبتي. “سنجرّب متابعة العلاج من المنزل لأيام ربما يتغير الوضع، وإلّا ستعود إلى المستشفى”. أمر آخر حصل أيضًا. عند الظهر تبلّغنا أن ثمّة إمكانية للانتقال إلى الغرفة المجاورة لأنّها ستخلو من المرضى. ولكن القرار لم ينفّذ بسهولة. تأخّر المريض في الخروج وعلينا الانتظار. الساعة السادسة و21 دقيقة دوّت الانفجارات في الضاحية واهتزّ المستشفى. وسُمعَت ابتهالات ناتجة عن خوف ورهبة وجهل لما حصل. يا عدرا شو هيدا. ويا زهراء الله يستر. كان واضحًا أنّها عملية كبيرة وأنّ الهدف كبير. مباشرة ذهبت الاحتمالات إلى محاولة اغتيال السيد حسن نصرالله حتى قبل أن تعلن وسائل إعلام إسرائيلية سريعًا أنّه الهدف.

كانت هناك حالة إنكار لمثل هذا الأمر الذي بدا وكأنّه من المستحيلات بالنسبة إلى عائلة وائل. غير معقول أن يكون السيّد في الضاحية. هذه حرب أعصاب وحرب نفسية تشنّها إسرائيل ضد “الحزب” لأنها تعاني من وضع عسكري صعب في الجنوب في القرى الأمامية وتتكبّد خسائر كبيرة. وحتى إذا صحّ ذلك، تكون هذه علامة من علامات ظهور الإمام المهدي…