
دليل متواضع لأسبوع حافل في الأمم المتحدة: بين الاستعراض الديبلوماسي والاستقواء العسكري الميداني ونجم العام
لن يكون الحشد الديبلوماسي في الأمم المتحدة هذا الأسبوع مجرد استعراض للخطب واللقاءات وإنما سيشهد مراجعةً للعلاقات التقليدية خصوصاً بين الحلفاء الأميركيين والأوروبيين ليس فقط نحو روسيا وحربها على أوكرانيا وإنما أيضاً نحو إسرائيل وحربها على غزة، ونحو إيران وأزمتها العقائدية النووية والصاروخية ووكلائها، ونحو سوريا التي أعادت اختراع نفسها وأُعيد اختراعها…
لن يكون الحشد الديبلوماسي في الأمم المتحدة هذا الأسبوع مجرد استعراض للخطب واللقاءات وإنما سيشهد مراجعةً للعلاقات التقليدية خصوصاً بين الحلفاء الأميركيين والأوروبيين ليس فقط نحو روسيا وحربها على أوكرانيا وإنما أيضاً نحو إسرائيل وحربها على غزة، ونحو إيران وأزمتها العقائدية النووية والصاروخية ووكلائها في اليمن ولبنان بالذات، ونحو سوريا التي أعادت اختراع نفسها وأُعيد اختراعها تحت قيادة أحمد الشرع، وكذلك في إطار السباق بين الديبلوماسية في المحافل الدولية وبين العسكرة في الميدان.
الجديد هو تطور المواقف الأوروبية باستقلالية عن المواقف الأميركية وبإجراءات، فيما المواقف العربية بغالبيتها تمايلت بين أولوية الاتفاقات الأمنية مع الولايات المتحدة وبين مساعي رفع العتب عن نفسها إزاء عجزها عن إيقاف ذلك الاستنفار والاستئساد والفجور والإجرام الإسرائيلي بحق المدنيين الفلسطينيين في غزة، فلم يبق سوى صوت السفير الجزائري في مجلس الأمن يتوسل إلى الفلسطينيين والفلسطينيات تكراراً بصرخة “سامحونا”.
واضح أن الولايات المتحدة الأميركية، وليس فقط الرئيس دونالد ترامب وإدارته، قد عقدوا العزم على مباركة الزحف الإسرائيلي لتنظيف غزة ليس من “حماس” فحسب وإنما من أهلها الفلسطينيين. هذا هو المطلوب لتنفيذ خطة تهجيرهم تمهيداً لخطة رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير التي وقّع عليها ترامب ورفاقه وصهره جاريد كوشنر وكذلك رجال التسلّط في إسرائيل، ويُزعم أنها تلقى دعماً واسعاً من قطاعات عربية مهمة.
المشهد الميداني مخجل إذ تُسقط إسرائيل الأبراج وتدفع الناس كالقطيع للرحيل على طرق موازية للشاطئ الجميل في غزة الذي يريد ترامب ورفاقه وعائلته وشركاؤه تحويله إلى ريفييرا الشرق الأوسط. مشهد مؤلم. مشهد مُحرج للعرب والمسلمين ولاسيما منهم الذين يتبنون موقف لا في اليد حيلة.
فالدول العربية والإسلامية قررت أن خيار الحرب ليس متاحاً أمامها. أوضحت أنها لن تحارب إسرائيل ولن تتخلى عن علاقاتها الثنائية واتفاقات التعاون الأمنية بينها وبين الولايات المتحدة. استوعبت الولايات المتحدة وإسرائيل معنى ذلك، فقررتا أن الوقت الآن هو المناسب لتنفيذ الأحلام الإسرائيلية التوسعية بعدما كان ترامب أعلن صراحة أن حجم إسرائيل صغير جداً قياساً بالبيئة العربية.
قمة الدوحة حشدت المؤازرة الدولية للسيادة القطرية في أعقاب العدوان الإسرائيلي على الدوحة، وصدر عنها الاشمئزاز مما تفعله إسرائيل في فلسطين وتدعمه الولايات المتحدة. إدانة واسعة واستنكار وتوعّد بالرد إذا كررت إسرائيل عدوانها على سيادة دولة قطر أو دولة أخرى خليجية. تجمعٌ ضخم للملوك والرؤساء كان أحد أهدافه إبلاغ إدارة ترامب عدم الرضى عن تبنيه كاملاً المواقف الإسرائيلية بكل انتهاكاتها للقانون الإنساني والدولي وقانون الحرب بإبادة جماعية وتهجير وتجويع. إنما، بلا إجراءات، لا توعد بإجراءات، لا عسكرية ولا اقتصادية. دونالد ترامب أخذ علماً بذلك وقال أن لا تكرار لانتهاك سيادة قطر مجدداً، ثم أوفد وزير خارجيته ماركو روبيو من إسرائيل إلى قطر ليطمئنها الى أن إدارته مستعدة لاتفاق معزز للتعاون الدفاعي معها.
يدرك ترامب تماماً أن ما تريده الدوحة ليس فقط التعاون الدفاعي مع الولايات المتحدة. تريد اتفاق دفاع مشترك أميركي- قطري وليس اتفاق تعاون دفاعياً. لذلك فتح الباب على تعاون دفاعي “معزز” واثقاً بأن ذلك يرطب الأجواء المتوترة ويلجم الإجراءات. فجميع دول الخليج تتمنى رفع مستوى العلاقات الأمنية مع أميركا، وليس فقط قطر.
ستُعقد في نيويورك هذا الأسبوع اجتماعات وزارية عديدة بينها الاجتماع التقليدي لوزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي مع وزير الخارجية الأميركي. سيركز اللقاء على العلاقات الأمنية المهمة. قيام السعودية بتوقيع اتفاق دفاع مشترك مع باكستان الأسبوع الماضي، تطور لافت ويبدو أن دولاً خليجية أخرى ستسير في الاتجاه نفسه.
الرسالة موجهة للولايات المتحدة كي لا تعتقد أن لا خيار ولا عنوان آخر أمام دول مجلس التعاون سوى واشنطن، مع أن لواشنطن الأولوية والأفضلية، ومع أن تطوير علاقات أمنية مع الصين أو روسيا أمر مستبعد تماماً الآن، ما لم تفرض مواقف واشنطن التفكير بهذا الخيار لاحقاً.
ثم أن اختيار باكستان كشريك في اتفاق دفاع مشترك مع السعودية له بُعد نووي بل بُعد نووي – سنّي في وجه النووي- الإسرائيلي والنووي- الإيراني. هذه الأمور ستكون حاضرة في المحادثات الجانبية في نيويورك على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة.
إحدى الرسائل المبطّنة للإدارة الأميركية تقوم على إبلاغها أن زج الدول الخليجية في زاوية الإحراج والاستفزاز الإسرائيلي لها بعربدة لا مثيل لها عنوانها إلغاء فلسطين وشعبها، إنما قد يؤدّي الى تداعيات ليست الآن في الحساب وقد لا تكون قابلة للسيطرة عليها.
فالفجور الميداني الإسرائيلي الوقح يعتمر عباءة حماية أميركية فاضحة. ماركو روبيو دعم الحسم العسكري السريع في غزة وتعهد الدعم المطلق لإسرائيل في سعيها لتدمير “حماس” كاملاً بأي ثمن كان، شرط الإسراع بالتدمير والتهجير. حالياً، يبدو أن هناك احتواء وتطويقاً للانتقام من إسرائيل ومن الولايات المتحدة، إنما الأمور قد تفلت وخصوصاً أن العمليات الإسرائيلية التجويعية والإبادية والتهجيرية ستستغرق أسابيع عديدة إن لم يكن بضعة أشهر، قبل تحقيق غاياتها.
الإحراج للدول العربية والإسلامية ليس أميركياً- إسرائيلياً فحسب وإنما هو أيضاً أوروبي لسبب مختلف تماماً. ذلك أن الدول الأوروبية تتخذ اليوم إجراءات ملموسة ضد إسرائيل، اقتصادية ورياضية وسياسية، وتتحدى الولايات المتحدة في المحافل الدولية، فيما صرخة “سامحونا” تختصر المواقف العربية والإسلامية العاجزة إما رغماً عنها وإما خوفاً من عواقب الإقدام.
القاسم المشترك للدول العربية والأوروبية بل للأكثرية العالمية هو الإصرار على التصدي لعزم إسرائيل على نسف مفهوم حل الدولتين تدعمها بذلك الولايات المتحدة. هناك إصرار عالمي بقيادة سعودية- فرنسية، على تثبيت دولة فلسطين في الأمم المتحدة وإيقاف الدفع الأميركي- الإسرائيلي لإلغاء فكرة دولة فلسطين.
إنما هناك، بالموازاة، عزم أميركي على الانتقام من التحدي العالمي بإعلان الاعتراف بدولة فلسطين في الأمم المتحدة. هذا الانتقام ليس مجرد مواقف إنشائية وإنما هو خطير ومرير لأن قوامه ليس فقط تبني الاحتلال الإسرائيلي لغزة وإنما أيضاً تبني الضم الإسرائيلي للضفة الغربية. فإدارة دونالد ترامب تنوي تلقين دول العالم درساً لن تنساه عنوانه: اياكم أن تكرروا مواقف تحرج أميركا وتعزلها.
فمن سيأتي إلى حماية الضفة الغربية مما هو آتٍ بعدما بات واضحاً أن أحداً لن يغامر بإيقاف الاحتلال الإسرائيلي لغزة؟ كل ما يقال عن تعليق أو إلغاء اتفاقات سلام أو هدنة مع إسرائيل يبقى في خانة التمنيات. فلا مؤشر على أن مصر مستعدة لتمزيق اتفاقات كامب ديفيد مع إسرائيل التي تهدد أمنها القومي اليوم بدفع المهجرين الفلسطينيين إلى الجانب المصري من رفح وفرض “الإخوان المسلمين” على مصر في وقت حساس للغاية.
ولا الأردن قادر على إلغاء معاهدة السلام مع إسرائيل حتى وهي في خضمّ تمكين المستوطنين من فرض أمر واقع تلو الآخر كحجر أساس للتهجير القسري، وضم الضفة، وتنفيذ حلم “الأردن كوطن بديل للفلسطينيين”.
لا السلطة الفلسطينية جاهزة للدوس على اتفاق أوسلو الذي أتى بها إلى السلطة والذي يتطلب منها الاستمرار في ضبط الأمن في الضفة كي لا يهدد إسرائيل. ولا “حماس” في صدد التضحية بنفسها كجهاز عسكري أو سياسي وتتنحى من أجل وضع العصا في دولاب التهجير الإسرائيلي ووقف الإبادة والمجاعة للمدنيين الفلسطينيين.
“حماس” لن تعترف بأخطائها بل ستمضي بها مهما كلّفت. فهي تتمسك بورقة خاسرة وبائسة ومفلسة أساساً، بمفهومها وبتنفيذها، اسمها ورقة الرهائن. إسرائيل استخدمت “حماس”، و”حماس” لبّت إسرائيل سهواً أو عمداً. كلاهما عارض حل الدولتين، وبهذا ينجحان معاً. أما التاريخ فإنه سيسجّل لهما معاً إلغاء فلسطين كـ “قضية” وكوجود في مأساة تاريخية تكاد ألا تنجو دولة من حياكة نسيجها.
وها هي فلسطين، كفكرة، يُحتفى بها في الأمم المتحدة وسط هتافات تضامن معها، لها قيمة معنوية وسياسية. فلسطين الواقع حكاية أخرى. دولة فلسطين ستأخذ حيزها في الأمم المتحدة هذا العام، افتراضياً، إنما ميدانياً لن يتدخل أحد لإنقاذها.
فهناك قضايا أخرى تستولي على انتباه العالم. لن ندخل هنا في تفاصيل المسألة الأهم على الساحة الدولية، وهي حرب أوكرانيا وتداعياتها على أوروبا برمتها التي بدأت تستعد حقاً لإمكان اندلاع حرب كبرى في الساحة الأوروبية. طبيب صديق يعمل في إحدى الدول الأوروبية قالها عفوياً أن الدولة المعنية طلبت من الأطباء ألاّ يغيبوا في شباط/ فبراير لأن هناك مؤشرات غير مطمئنة.
فأوروبا تستعد لحرب مع روسيا وهي تريد من دونالد ترامب أن يكف عن الاندفاع الغريب لاحتضان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كما فعل بحفاوة مخجلة، ثم اعترف بأنه أساء قراءة بوتين وسياسات روسيا. هذه ليست مزحة، يقول الأوروبيون للسيد ترامب لأن الحرب قد تدق أبواب أوروبا ولن يفيد تباهي دونالد ترامب النرجسي بأنه يسعى لأن يكون رجل السلام الذي يبحث عن مكافأة.
دونالد ترامب ما زال يبحث عن وسيلة لتجنّب الحرب مع إيران. رجال طهران يسيرون بين ضفتي التصعيد والإذعان إدراكاً منهم أن لا مجال لضمان ردود فعل الرئيس الأميركي. أثناء الحشد الدولي في الأمم المتحدة ستكون مسألة إيران أقل احتفائية مما هي مسألة فلسطين، لكن اللقاءات الجانبية مع الأوروبيين تستحق المراقبة والمتابعة لأن إيران خائفة جداً من آلية الزناد التي تعيد فرض العقوبات الأوروبية عليها. وهي أيضاً في هلع من احتمال انتقال عدوى الاستنفار والاستئساد الإسرائيلي إليها.
لعل سوريا ستكون محطة مثيرة للاهتمام بامتياز أثناء انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة، لأن رئيسها اليوم أحمد الشرع كان قبل سنوات قليلة مصنّفاً إرهابياً. مجلس الأمن الدولي كان صنّف “جبهة النصرة” التي انتمى إليها بدعم من تنظيم “القاعدة” إرهابية، وها هي المنظمة الدولية تستعد الأسبوع المقبل للاحتفاء بأحمد الشرع كرئيس الاعتدال في سوريا. أنظار الإعلام الدولي ستنّصب على الشرع وخطابه ولقاءاته الثنائية ورسائله الإقليمية والدولية خصوصاً في ضوء الرعاية الأميركية العلنية له ولسوريا برئاسته. فهو سيكون النجم الجديد على الساحة.
رعاية الإدارة الأميركية على مستوى الرئيس ترامب للرئيس الشرع لا يُستهان بها، لأن مبعوث الرئيس الأميركي توم برّاك الى سوريا يمسك بيد الشرع ووزير خارجيته أسعد الشيباني لرسم الخريطة التالية: رفع عقوبات الكونغرس عن سوريا بموجب قانون قيصر، إبرام الاتفاق الأمني مع إسرائيل مع التمهيد لمعاهدة سلام لاحقاً بين البلدين، تطبيع الحدود بين سوريا وجيرانها، ضمان استمرار التواجد الأميركي العسكري مع امتيازات مهمّة في اطار إعادة تأهيل الجيش السوري، الإصرار على الحكومة السورية التعهد عدم التفريط بحقوق الأقليات كالكرد والدروز والمسيحيين والعلويين، كي يقبل أمثال السيناتور ليندسي غراهام إنهاء عقوبات قانون قيصر، تطوير العلاقات الطبيعية مع لبنان، منع عودة “حزب الله” وإيران وكذلك روسيا إلى سوريا.
البراغماتية السورية تجبرها على خفض نبرة الاحتجاج ولغته على التجاوزات الإسرائيلية داخل سوريا ونحو الفلسطينيين في القطاع والضفة. فسوريا اليوم ليست جاهزة لتكون رأس الحربة للدفاع عن فلسطين حتى وان قيل أن ما يجمع بين هوية الكثيرين في الحكومة السورية وبين قيادات “حماس” هو عقيدة “الإخوان المسلمين” التي تتبناها ضمناً تركيا. إنه تكتيك تعدّي المخاطر والقفز على الاشتباك، حتى اشعار آخر.
أولوية الرئيس السوري أحمد الشرع اليوم تشمل إلغاء هوية الداعشي أبو محمد الجولاني التي كان سابقاً يفتخر بها.
الأسبوع المقبل سيكون أسبوعاً مهمّاً في السباق بين العسكرة ميدانياً والديبلوماسية في المحافل الدولية. الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي يكره الأمم المتحدة برمتها سيستخدم منبر الجمعية العامة في خطاب تأديبي لمن ينتقده وتهديدي لمن يعارضه وانتقامي ممن يحرجه. فهو في رأيه النجم الساطع الوحيد لأن لا أحد غيره رئيساً للولايات المتحدة الأميركية.