
خط الروشة – الرياض
قام “حزب الله” في الأسبوع الأخير بإعلانين، إذا صح التعبير. الأول هو الإعلان عن نيّته إضاءة صخرة الروشة في بيروت، وهي أبرز معالم المدينة الطبيعية والسياحية، بصورتي الأمينين العامين السابقين حسن نصرالله وهاشم صفي الدين في الذكرى الأولى لاغتيالهما. أما الثاني فكان الإعلان الصريح عن استعداد “حزب الله” للدخول في حوار مع المملكة العربية السعودية، بعد سنوات من التعبير الصريح والفجّ عن العداء لها ولقيادتها، على قاعدة تعاون مشترك في “مواجهة إسرائيل”. من خلال هذين الإعلانين، بتناقضهما شكلًا وتوأمتهما مضمونًا، يمكننا بلورة فهم أعمق للاستراتيجية المتكاملة لـ “الحزب” في المرحلة المقبلة وعنوانها واحد أحد: الحفاظ على السلاح.
للوهلة الأولى بدا قرار “حزب الله” إضاءة صخرة الروشة بصور قادته غريبًا، وكأنه يهدف إلى الاستفزاز كغرض قائم بحد ذاته. إذ لا علاقة معنوية أو عملية خاصة لـ “الحزب” أو جمهوره بهذا المعلَم، إضافة إلى كونه يقع في منطقة ذات طابع سياسي عام معادٍ لـ “الحزب”. لم يسبق في تاريخ الجمهورية أن أضيئت الصخرة (أو أي من المعالم التي تنافسها في الرمزية، أي قلعة بعلبك أو جبيل الخ) بصور قيادات سياسية لبنانية، حتى في عزّ زمن انتشار محاولات السيطرة الرمزية على الفضاء العام. بطبيعة الحال، قامت الدنيا ولم تقعد اعتراضًا، خصوصًا على مستوى العاصمة بيروت، وقد أثار القرار استياء أهل المدينة بشكل خاص، كما جزء كبير من عموم اللبنانيين. السؤال إذًا يطرح نفسه: لماذا قرر “حزب الله”، وفي هذا التوقيت بالذات، اتخاذ قرار كهذا، مع كل ما يتبعه من ازدياد في نسبه الاحتقان الشعبي والسياسي تجاهه، في الوقت الذي يخسر فيه الحليف تلو الآخر، تحديدًا داخل البيئة السياسية السنيّة؟
يبدو أن “حزب الله” فقد الأمل من محاولات استمالة اللبنانيين عبر الكلام المنمّق والمعسول عن “الوحدة الوطنية” و”العيش المشترك”، مدركًا أن هكذا كلام ما عاد له صدى عند الأغلبية الساحقة منهم، فانتقل إلى استراتيجية أخرى قائمة على تثبيت الحضور المعنوي. هكذا يعتقد “الحزب” بأنه يحقق هدفين موازيين ومتداخلين.
الأول (باتجاه خصومه) هو إعادة تثبيت موقعه كجهة مسيطرة على المخيّلة الجماعية، عبر إمساكه الرمزي بالفضاء العام المشترك، خصوصًا بعد إزالة صور قادته عن طريق المطار. بذلك يكون عاد ولو صوريًا وموقتًا إلى ظاهرة لوياثانية (بالإشارة إلى الوحش البشري التوراتي) يجب التعامل معها بجديّة واحترام (كما أشار الكاتب البريطاني توماس هوبس في كتابه عن الدولة القوية الموحّدة).
أما الثاني (باتجاه جمهوره) فهو الوجه الآخر للعملة نفسها: لم نهزم، لم نصبح صغارًا، لم نعزل، ولم نوضع في الزاوية (أي المناطق الخاصة ببيئتنا). إذًا العنوان هو التحدي، إثبات القدرة، والاستعراض الرمزي، ولو على حساب الرضى الموقت للآخرين. أحداث السابع من أيار مثلًا، خلقت حقدًا منقطع النظير تجاه “الحزب”، ولكن مفعولها سمح له بحكم لبنان مدّة سبعة عشر عامًا. وكأن استعراض الروشة محاولة 7 أيار نسخة 2025، أي بشكل يائس وغير مسلّح.
هذا على خط الروشة بيروت. أما على خط الرياض في المملكة العربية السعودية فمنطق مختلف تمامًا. فقد دعا الأمين العام لـ “الحزب” نعيم قاسم إلى “فتح صفحة جديدة” والشروع في “حوار” يهدف إلى مواجهة ما حاول قاسم إظهاره كتحديات مشتركة.
بغض النظر عن اللهجة الاستعلائية المضحكة التي اتّبعها قاسم بالحديث عن “أسس” الحوار المفترض (تظنّه قائدًا سوفياتيًا يخطب بالأميركيين في السبعينات)، وبغض النظر عن سوء فهم قاسم لموقف السعودية من الحدث القطري (ما قبله تمامًا كما ما بعده)، لا يمكن لأي مراقب إلا أن يتوقّف عند دعوة “حزب الله” للسعودية في سعيه لفهم استراتيجية “الحزب” في المرحلة المقبلة. لبنانيًا، يدرك “الحزب” أنّه محاصر سياسيًا، وليس بإمكانه فكّ عزلته حتى إشعار آخر.
أما إقليميًا، فهو على قناعة (ومن ورائه إيران، التي تقف من دون أدنى شك وراء هكذا مبادرة) بأن المحور الممانع بالمعنى الذي خطط له قد انهار، وأن الثور الإسرائيلي الهائج لن يرتاح قبل القضاء الكلي عليه، كما يعلم مثل غيره بأن السعودية قد ثبّتت موقعها كالثقل الاستراتيجي الوازن الرئيسي في المنطقة. لذا يسعى بشكل يائس (نسبة إمكانية التعامل الإيجابي السعودي مع المبادرة في ذهن أي عاقل لا تتعدى الـ 1 %)، ولو على حساب “كرامته”، إلى إيجاد هوّة ما في العلاقة مع المملكة، يعيد من خلالها ترتيب أوراقه وشبكة أمانه، ويضغط عبرها على الداخل اللبناني لفك العزلة المحكمة التي ساهمت السعودية في هندستها (خصوصًا على المستوى السني). لكن الخطوة أتت هزيلة (too little too late) ولن ينتج عنها أي إيجابية تذكر. وقد أتى الجواب السعودي واضحًا ومقتضبًا: التعامل يكون مع الدول وليس مع الميليشيات.
“مرتا مرتا إنك تهتمين بأمور كثيرة إنما المطلوب واحد”: تسليم السلاح!