
الاعترافات بدولة فلسطينية: خدعةٌ ورصاصةُ رحمة
بالتأكيد، لا يمكن لفلسطيني أو عربي إلّا أن يرحّب بموجة الاعترافات الدولية بالدولة الفلسطينية. فهي أولاً حلم طال انتظاره، وتعتبره منظمة التحرير الفلسطينية ثمرة نضال عمره 77 عاماً. وهي ثانياً ركيزة أساسية لنجاح المبادرة العربية للسلام التي أعلنتها المملكة العربية السعودية في قمة بيروت العربية عام 2002. ولكن، هل السياق السياسي والعسكري الحالي يسمح فعلاً بهذا التفاؤل؟
يبدو مثيراً أن تعلن دول غربية منحازة بقوة إلى إسرائيل، وأبرزها بريطانيا، اعترافها بحق الفلسطينيين في أن تكون لهم دولة. وثمة من يطرح شكوكاً حول ما يجري، ويعتبره خدعة سياسية في اللحظة الفلسطينية والعربية والإقليمية الحرجة، لتحقيق أهداف تناقض تماماً أهداف الفلسطينيين، أي الحصول على حقهم في إنشاء دولتهم المستقلة. فهذه الاعترافات ليست مؤهلة، في أي شكل، لتتحوّل إجراءات عملية. وعلى العكس، يتوعد بنيامين نتنياهو أنّه سيقوم قريباً جداً، فور عودته من نيويورك، بتنفيذ تهديداته بضمّ الضفة الغربية بكاملها، وهذا ما يقضي تماماً على فكرة إقامة دولة فلسطينية مستقلة.
في الواقع، موجة الاعترافات العالمية مفتعلة على الأرجح، وموحى بها، من جانب الولايات المتحدة، وهي تحظى بغضّ نظر إسرائيلي، بهدف التغطية على الاتجاه المعاكس الذي ستدخل فيه إسرائيل، وبقوة، في الأسابيع والأشهر القليلة المقبلة، أي اجتياح مدينة غزة وترسيخ السيطرة على القطاع وضمّ الضفة الغربية.
الخبراء يقولون: إذا كان يُراد للدولة الفلسطينية أن تقوم، فذلك لا يتحقق على الورق، بل على الأرض. ولا قيمة لأي اعتراف بهذه الدولة ما لم يتمّ إرفاقه بتفاصيل ضرورية، أولها موقع الدولة وحدودها الجغرافية. ومن دون ذلك، يصبح الإعتراف مجرّد عنوان فارغ يشبه شراء السمك في البحر، ولا يمكن تحويله واقعاً ملموساً. فهل المطلوب إلهاء الفلسطينيين والعرب، أو إغراؤهم، بعنوان فضفاض هو الدولة، على الورق، فيما على الأرض يتحقق النقيض؟ كما أنّ الاعتراف بدولة فلسطينية ينبغي أن يترافق مع تأمين السيطرة الوطنية الفلسطينية، أي بسط السلطة الفلسطينية، على أراضي هذه الدولة. وفي الواقع، ما يجري اليوم هو العكس.
الاعتراف بالدولة الفلسطينية، في جوهره، هو مبدأ نظري لا أكثر، وهو يصبح فارغاً ما لم يقترن بتحديد دقيق لمساحة الدولة الموعودة وحدودها الجغرافية، وعاصمتها، وسيادتها الفعلية على أرضها. فما قيمة الاعتراف إذا كانت الأراضي التي يُفترض أن تُقام عليها الدولة قد تعرّضت للضمّ أو الإستيطان؟ وبينما تتحدث عواصم أوروبية عن «حل الدولتين» كخيار وحيد للاستقرار، يتواصل توسع الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية، ما يجعل فكرة الدولة الفلسطينية المتواصلة جغرافياً أشبه بحلم بعيد المنال. لكن القوى الدولية عموماً تبدو عاجزة أمام إسرائيل. والأرجح أنّها تعلن اعترافاتها «الفارغة» لإراحة الضمير لا أكثر، لأنّ إسرائيل، وبدعم أميركي، ستمضي في فرض سياسات الأمر الواقع التي تتناقض مباشرة مع المبادئ الدولية وقرارات الأمم المتحدة. وتصريحات نتنياهو حول الضمّ تعكس نية واضحة لتغيير المعطيات في شكل دائم، ما يُلغي عملياً أي فرصة لإقامة دولة فلسطينية، أو شبه دولة، تتمتع بالحدود الضيّقة من ممارسة السيادة. فحتى هذا المفهوم الضعيف جداً من ممارسة السيادة، الذي أقرّه اتفاق أوسلو، أسقطته حكومة نتنياهو نهائياً. فالاعترافات الدولية، على أهميتها الرمزية، لا تُشكّل أي ضغط على إسرائيل لتغيير سياستها، لأن لا آليات تنفيذ حقيقية لها، كالعقوبات مثلاً، وفقدان الحزم يجعل تلك الاعترافات مجرد عناوين برّاقة، لكنها فارغة.
المتفائلون من الفلسطينيين يقولون إنّ الاعتراف بالدولة الفلسطينية هو خطوة أولية في الاتجاه الصحيح، أي إنّه بداية طريق شاقّ وطويل قد يستغرق عقوداً لبلوغ الهدف، أي إقامة دولة ذات سيادة حقيقية ضمن حدود قابلة للاستمرار. لكن هذه النظرة المتفائلة تنطوي على شكوك حقيقية. فإسرائيل تعتمد استراتيجيات توسع وابتلاع طويلة الأمد، وهي قادرة على تدمير فكرة الدولة الفلسطينية في مهدها. والأرجح أنّها ستطلق العنان لاحقاً لتنفيذ مسار التهجير الفلسطيني من غزة والضفة إلى مصر والأردن وسائر بلدان الشتات، ما يعني ذوبان الشخصية الفلسطينية التاريخية.
ثمة ظلال سميكة من الشك تحوط احتمالات التوصل إلى حل سياسي. ولا يمكن لأحد أن يدّعي دعمه للدولة الفلسطينية من دون إطلاق مسار سياسي جاد يُجبر إسرائيل على وقف الاستيطان، وعلى الانسحاب من الأراضي المحتلة، وإلّا فإنّ الاعترافات ستبقى مجرد حبر على ورق، بل إنّها في الواقع ستؤدي إلى تخدير الرأي العام وتبرير سياسات الأمر الواقع بدلاً من مواجهتها، ما يسمح بإمرارها وتثبيتها لتصبح نهائية. وأما المجتمع الدولي فيكون قد غسل يديه من دم الدولة الفلسطينية والشعب الفلسطيني وقضيته، وبرّأ نفسه أمام التاريخ.
لذلك، حملات الترحيب بهذه الاعترافات تبدو مدروسة وموحى بها، للإمعان في تغطية ما يجري على الأرض. ومعها، قد يكون العالم أمام المشهد الأخير من تصفية القضية الفلسطينية، تحت غطاء كثيف من الخبث السياسي العالمي.