
خاص- السعودية تبحث عن توازن جديد في وجه إسرائيل
ليست دعوة الأمين العام لـ “حزب الله” نعيم قاسم إلى فتح صفحة جديدة مع الرياض ناتجة من العدم، ولا يمكن تسخيفها إلى درجة الاعتقاد أنّها مجرّد دعوة يائسة لحزب خسر كلّ أوراقه. ولكن في الوقت عينه، لا تعني هذه الدعوة أنّ السعودية ستبادر إلى تلقّفها، وتزيل أعواماً من الشكوك وعدم الثقة مع المحور الإيراني.
كلام نعيم قاسم الذي أتى بعد الهجوم الإسرائيلي على اجتماع لقادة “حماس” في الدوحة، كان محاولة لاستغلال الغضب الخليجي والعربي إزاء استهداف الأراضي القطرية، وما خرجت به القمّتان العربية والإسلامية من توجّه إلى إعادة درس العلاقات مع إسرائيل، سواء لدى الدول التي عقدت اتّفاقات تطبيع، أو تلك التي كانت تفكّر في الالتحاق بالاتفاقيّات الإبراهيمية. وربّما يعتقد قاسم، ومن ورائه إيران، باحتمال تعويم المحور الإيراني بالتضامن مع دول الخليج في مواجهة إسرائيل.
ولكن، في معزل عن محاولات إيران و”حزب الله”، فإنّ الضربة الإسرائيلية التي استهدفت قطر جعلت دول الخليج، وعلى رأسها السعودية، تعيد حساباتها. فالرياض، التي كانت اشترطت لتطبيع العلاقات مع تلّ أبيب إعلان القبول بمبدأ حلّ الدولتين، أصبحت الآن أكثر حذراً، وتعتقد أنّ هذا الشرط غير كافٍ لضمان التوازن في وجه إسرائيل، التي ثبُت أنّها لا تقيم أيّ اعتبار لأيّ أمر عندما تنوي تحقيق هدفٍ ما. وهي لم تهتمّ لكون الضربة ستكون على الأراضي القطرية، بمجرّد أنّها قرّرت تصفية قيادة “حماس”.
وأخذت السعودية العبرة من أنّ أيّ اتّفاق مستقبلي مع إسرائيل لن يكون كافياً لحماية الأراضي الخليجية والسعودية من أيّ اعتداءات إسرائيلية، ما لم تكن الرياض مدعّمة بعوامل قوّة، تفرض حدّاً من التوازن مع إسرائيل. فهي اختبرت كيف أنّ واشنطن بنفسها لا يمكنها أن تفرض سياستها على بنيامين نتنياهو في ما خصّ خططه في المنطقة. فالإدارة الأميركية التي تريد إنهاء الحروب سريعاً، لتبدأ بتنفيذ رؤيتها لشرق أوسط جديد ومزدهر، تواجَه بالمخطّطات الإسرائيلية التي تريد الاستمرار في الحروب، سواء في غزّة أو لبنان، أو باستهداف إيران من جديد، تحقيقاً لأهداف أبعد ممّا تبدو عليه الأهداف المعلنة.
وباتت الرياض ترى أنّ الأتفاقيات الدفاعية مع واشنطن ليست كافية. فالولايات المتحدة والسعودية وقّعتا في أيّار الماضي أكبر صفقة مبيعات دفاعية في التاريخ، بقيمة تقارب 142 مليار دولار، لتزويد المملكة بمعدات قتالية متطورة. ولكن تنفيذ هذه الاتفاقيات وتوقيت تسليم العتاد يبقيان غير مضمونين. لذا، تيقّنت السعودية أنّ تحصين قوّتها يكمن في توقيع اتّفاقية دفاع مشترك مع الدولة النووية باكستان. وهذا ما حصل بالتزامن مع القصف الإسرائيلي على الدوحة.
وهكذا، أصبحت المملكة عمليّاً تحت غطاء اتّفاق عسكري يشمل السلاح النووي، بما يخلق توازناً معيّناً مع كل من إيران من جهة، وإسرائيل من جهة ثانية. وفي هذه الحالة، يؤمّن وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان لبلاده الضمانات الأمنية والعسكرية، إضافة إلى الضمانات الاستثمارية الهائلة التي سيضخّها في الولايات المتّحدة، بقيمة 600 مليار دولار، بحسب الاتّفاق الأخير الموقّع مع الرئيس دونالد ترامب.
ولكن، ماذا تعني وسط كلّ ذلك دعوة قاسم إلى فتح صفحة جديدة مع السعودية؟
يبدو أوّلاً أنّ هذه الدعوة ليست وليدة أريحية “الحزب”، بل هي أتت بنصيحة وتوجيه من طهران. فقد كان أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي لاريجاني يزور الرياض بالتزامن مع “عرض” قاسم. وأراد الاستفادة من الحالة التي ولّدتها الغارة الإسرائيلية على قطر، ليقول لدول الخليج إنّ الاتّفاقات مع إسرائيل لا تحميها من الهجمات ولا تحفظ أمنها في وجه إيران.
ولكن السعودية سارعت إلى التعليق على كلام قاسم، مؤكّدة أنّ المملكة تتعامل مع لبنان من دولة إلى دولة، وهي تشجّع خطط الحكومة لحصرية السلاح. أمّا إيران كدولة فشأن آخر، غذ سبق للرياض أن وقّعت “اتّفاق بكين” مع طهران في آذار من العام 2023، والذي تمّ من خلاله إعلان عودة العلاقات بين البلدين، بعد سنوات من القطيعة. ولكن هذا الاتّفاق الذي أسهم في حالة الاستقرار في المنطقة، خصوصاً بعد توقف الحرب بين اليمن والمملكة السعودية، لم يحقّق أيّ نتائج أخرى على صعيد تطوير العلاقات بين الجانبين، بل بقي مجرّد اتّفاق لتصفير الصراعات.
أمّا الآن، وبعدما غيّرت الحرب الإسرائيلية المفتوحة على “سبع جبهات” وجه المنطقة، يمكن للتقارب الإيراني السعودي أن يشكّل عامل ضغط إضافي على إسرائيل، كما تأمل طهران. لكن السعودية التي لا تسقِط أيّ عامل من حساباتها، لم تقرّر اتّخاذ خطوة جديدة في الوقت الحاضر. هي تراقب، لا تريد المزيد من الصراعات، وفي الوقت نفسه تعمل على تجميع عناصر القوّة لديها وتنويع مصادر الاستثمار، لتكون جاهزة للمرحلة المقبلة من موقع قوّة لا من موقع ضعف.