
خاص- ورقة برّاك ذهبت مع الريح
بين كلام الموفد الأميركي توم برّاك الأخير الذي شكّك فيه بقدرة لبنان على نزع السلاح واعتبر أنّ “السلام وهم”، وكلام وزير الخارجية ماركو روبيو الذي أكّد الاستمرار في دعم لبنان، ما هي حقيقة الموقف الأميركي تجاه الملفّ اللبناني؟ وهل صحيح أنّ واشنطن يئست من سياسة “المماطلة” التي تتّبعها الحكومة اللبنانية، ولا مانع لديها من إعطاء الضوء الأخضر لإسرائيل للتصرّف، أم ما زالت متمسّكة بدعم لبنان ومساعدته على إنجاز عملية سحب السلاح، والعبور إلى برّ الأمان الاقتصادي؟
هناك عوامل عدّة يجب أخذها في الاعتبار لمحاولة فهم الموقف الأميركي. وأوّلها أنّ تضارب التصريحات يدلّ إلى وجود وجهات نظر مختلفة داخل الإدارة الأميركية ووزارة الخارجية والكونغرس بتلاوينه. وعليه نرى مدّاً وجزراً في التصريحات الصادرة عن كلّ من برّاك وروبيو والسناتور ليندسي غراهام على سبيل المثال.
ولكن هناك وقائع على الأرض تفرض نفسها، وتظهر نتائجُها تباعاً، قد تكون وراء التصريح الناري لبرّاك الذي أثار الاستغراب لدى المسؤولين اللبنانيين.
عمليّاً، أطاحت إسرائيل الورقة الأميركية التي قدّمها برّاك، والتي اكتفى لبنان بإقرار أهدافها دون البنود. ولم يبدِ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تجاوباً مع فكرة تقديم أيّ تنازل، ولو رمزي، من أجل إعطاء دفع للدور الأميركي وتشجيعه على المضي قدماً في دعم الحكومة اللبنانية في خطّتها لنزع السلاح. على العكس من ذلك، أكّدت تلّ أبيب عدم استعدادها للانسحاب من أيّ نقطة من النقاط التي تحتلّها في الجنوب، وواصلت غاراتها وعمليّاتها، لا بل تعمّدت أن تستهدف سيّارة في بنت جبيل، حيث قضى أبٌ وأولاده الثلاثة، بعد ساعات فقط على اجتماع لجنة الميكانيزم في حضور الموفدة الأميركية مورغان أورتاغوس. وقد بحثت اللجنة في ضرورة التزام إسرائيل باتّفاق وقف النار، وفي كيفيّة دعم الجيش للقيام بمهامّه للانتشار في جنوب الليطاني.
وبحسب المعلومات، فإنّ واشنطن استاءت من عدم التجاوب الإسرائيلي، ما سيؤدّي عمليّاً إلى إضعاف ورقة برّاك أو حتّى إفشالها، وإرباك مهمّة أورتاغوس التي تتابع التفاصيل العسكرية لخطّة الجيش. وبما أنّ هذه الخطّة لا تلحظ مهلاً زمنية وتترك التنفيذ مفتوحاً إلى أجل غير محدّد، فقد ارتأى برّاك أن يصبّ جام غضبه بسبب فشل مهمّته على الجانب اللبناني. فقال إنّ “كل ما يفعله لبنان هو الكلام، وعلى الحكومة تحمّل مسؤوليّتها”.وأضاف: “حزب الله عدوّنا وإيران عدوّتنا، ونحن في حاجة إلى قطع رؤوس هذه الأفاعي، ومنع التمويل عنها”.
ولكن، هذا لا يعني تخلّي واشنطن عن لبنان في هذه المرحلة الصعبة، كما تقول المصادر. فالإدارة الأميركية ملتزمة تجاه سيادة هذا البلد، ومصرّة على إكمال مهمّة الجيش في سحب السلاح، وتحاول أن تتفهّم وجهة النظر اللبنانية التي تتحاشى حصول صدامات داخلية. وقد فهمت أورتاغوس مدى صعوبة تنفيذ هذه المهمّة بالقوّة، وعرفت أنّ الدعم الأميركي المباشر والمواكبة ضرورية، ولا بديل عنهما في الوقت الراهن. لذا، هي تتابع مهمّتها من الناحية التقنية العسكرية. وستكون واشنطن مستعدّة لإرسال المعدّات والمساعدات للجيش بقدر حاجته ووفقاً لتقدّم خطّة سحب السلاح.
ولكن، لا تبدو الإدارة الأميركية قادرة في الوقت الراهن على فعل المزيد، مع أنّها تحاول ممارسة أقصى الضغوط على لبنان للمضي في قراره بحصريّة السلاح. كما يهمّ واشنطن أن تتمّ هذه العملية قبل موعد الانتخابات النيابية في لبنان في أيّار المقبل، ما يضعف تأثير “الحزب” على النتائج. ولكن هذا الأمر لن يتحقّق في الوقت الراهن.
وإذا كانت إسرائيل تضرب بعرض الحائط كل المبادرات الأميركية، فإنّ “الحزب” مستفيد بدوره من هذا الواقع، لأنّه يعطيه الحجج للتمسّك بالسلاح وتقطيع الوقت. ولكن، هذه الحجج ستكون سيفاً ذا حدّين. وثمّة من يعتقد أن سياسة الممطالة لن تكون مفيدة للحزب نفسه، والأفضل هو التماهي مع الدولة وتسليم السلاح الآن، لأنّ الغد قد تكون شروطه أكثر صعوبة وأشدّ كارثيّة على الحزب.
فإسرائيل ماضية في مشروعها الكبير الممتدّ من غزّة إلى سوريا واليمن ولبنان وإيران. وفيما هي تكمل عمليّتها التدميرية والتهجيرية في القطاع، تواصل العمل على ترتيبات أمنية مع سوريا وفق شروطها هي. ويبدو الرئيس أحمد الشرع في طور القبول بهذه الشروط. أمّا لبنان، فسيأتي دوره. وربّما تستعدّ إسرائيل لجولة حرب واسعة جديدة لاستكمال ضرب مقوّمات “الحزب”. وعندها تفرض شروطها، التي ستكون أسوأ ممّا هي عليه اليوم. فلا مكان عندها لورقة برّاك أولسواها، إنّما فقط للورقة الإسرائيلية. فهل يستشعر “الحزب” هذا الخطر قبل فوات الأوان؟