خاص – من فائض القوة إلى فائض الوقاحة

خاص – من فائض القوة إلى فائض الوقاحة

الكاتب: نبيل موسى | المصدر: Beirut24
26 أيلول 2025

أثبتت الأحداث والتجارب على مدى السنوات الماضية أن “حزب الله” يلتزم بدقة متناهية بتعهداته مع العدو الإسرائيلي، بدليل السنوات الست من الهدوء المطلق على الحدود اللبنانية الاسرائيلية بين عامي 2000 و2006. في ذلك العام اندلعت حرب تموز التي قيل الكثير عن أسبابها في ذلك الوقت، ومن بين هذه المقولات أن الأمين العام الراحل لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله لم يكن على علم بالإعداد لعملية خطف الجنود الاسرائيليين عند الحدود، وبأن هذه العملية حصلت بأوامر إيرانية مباشرة لإحدى الفرق الخاصة في الحزب. وما عزز هذه الفرضية في ما بعد مقولة “لو كنت أعلم” الشهيرة التي أطلقها نصرالله في إحدى كلماته والتي ضجّت بها وسائل الاعلام لسنوات لاحقة حتى أصبحت شعارًا لصيقًا بتلك الحرب.

انتهت حرب تموز بالقرار 1701 فتمسك “حزب الله” حرفيًا بالفقرات المتعلقة بضمان أمن إسرائيل، فساد الهدوء مجددًا المنطقة الحدودية على مدى 17 عامًا متواصلة، وانحدرت المقاومة لتبلغ مستوى رجم بوابة فاطمة بالحجارة، بالرغم من ان الحزب استغل هذه المرحلة ليواصل نخر الدولة اللبنانية واستباحتها بالكامل، للتمكن من بناء ترسانته العسكرية.

واصل الحزب التزامه بضمان أمن اسرائيل وفقًا للقرار 1701، حتى وصل به الأمر حد المبالغة في هذا الالتزام عند وقوع انفجار مرفأ بيروت في 4 آب 2020 الذي دمّر ثلث العاصمة وأوقع مئات الضحايا والجرحى. وبالرغم من تأكيد عشرات شهود العيان، إضافة الى أدلة أخرى، أن مقاتلات اسرائيلية كانت في أجواء العاصمة قبيل وقوع الانفجار ما يوحي على الأقل بأن اسرائيل تقف وراء الجريمة الكبرى، اختلق الحزب وأبواقه نظرية تلحيم باب “عنبر النيترات”، على غرار نظرية أبو عدس في اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، بهدف تضليل التحقيق وحرفه عن اتهام اسرائيل، حتى لا يكون الحزب مضطرًا للرد عليها بعملية مماثلة كانت ستؤدي حتمًا الى اندلاع الحرب الأخيرة قبل ثلاث سنوات.

بعد ذلك جاء ترسيم الحدود البحرية بين لبنان واسرائيل في 27 تشرين الأول 2022 وما رافقه من اعتراضات داخلية كبرى على تخلي لبنان عن مساحات شاسعة من مياهه الإقليمية بسبب قبوله بالخط 23 عوضًا عن الخط 29. هذه الاتفاقية التي حصلت بوساطة أميركية، وكان عرابها آموس هوكشتاين صديق الرئيس نبيه بري، لم تؤمّن الى اليوم أية مكاسب اقتصادية للبنان، فيما أعطت إسرائيل براءة ذمة وموافقة لبنانية رسمية على مواصلة العمل، الذي كان قد بدأ قبل سنوات، في حقل كاريش وربما أبعد منه، تحت أنظار الحكومة اللبنانية والحزب معًا. وقبيل توقيع الاتفاق أعطى نصرالله ضمانات أمنية للقيادة الإسرائيلية عبر الأميركيين بعدم استهداف حقل كاريش، وهو ما حصل بالفعل بالرغم من اندلاع حرب “إسناد غزة” في اليوم التالي لعملية “طوفان الأقصى” في 7 تشرين الأول 2023، بحيث ان الحزب لم يستهدف حقل كاريش الذي يبعد بضعة كيلومترات عن مواقعه الأمامية بصاروخ واحد طيلة أشهر الحرب، وحتى بعد الخسائر الكبرى التي مني بها مثل “عملية البيجر” والاغتيالات التي طالت قياداته.

على الضفة الأخرى، أثبت “حزب الله” في مرات متتالية عدم التزامه بأية وعود قطعها للدولة اللبنانية، بدءًا بالضمانات التي أعطاها نصرالله شخصيًا بصيف واعد اقتصاديًا قبيل حرب تموز عام 2006 وليس انتهاءً بـ”إعلان بعبدا” الذي كان ثمرة اجتماعات ماراتونية لهيئة الحوار الوطني برئاسة الرئيس ميشال سليمان في قصر بعبدا في 11 حزيران 2012، والجملة الشهيرة لرئيس كتلة “الوفاء للمقاومة” محمد رعد التي أصبحت بمثابة “تراند سياسي”: “روحوا بلّوه واشربوا ميّتو”.

أما اليوم، وبعد جملة الهزائم التي تعرّض لها “حزب الله” وبيئته ولبنان ككل منذ 8 تشرين الاول 2023 الى اليوم، ارتد الحزب مجددا الى الداخل منتقلًا من فائض القوة الى فائض الوقاحة. وفي مقابل مواصلته الالتزام بتعهداته تجاه اسرئيل لجهة إخلاء منطقة جنوب الليطاني من سلاحه ومقاتليه، يسعى الحزب جاهدًا بكل ما تبقى له من قوة لمنع قيام الدولة التي ستمنع عنه بالتأكيد امتيازاته التي راكمها بالقوة على مدى عقود، وتضعه في مصاف غيره من الأحزاب اللبنانية، مهددًا علنًا بالحرب الأهلية إذا تجرأ الجيش على نزع سلاحه. وعوضًا عن ان يقدّم اعتذاره لمقاتليه وبيئته والشعب اللبناني على خطأ دخوله حربًا جرّت الخراب على الجميع، اتجه “حزب الله” الى التصعيد الإعلامي عبر رفع وتيرة التهديد، وواكبه أخيرًا بتصعيد شعبي على الأرض نجح في استفزاز جميع الشرائح اللبنانية ولم تشعر به اسرائيل:

-أليس من الوقاحة أن يحيي الحزب ذكرى اغتيال نصرالله في منطقة الروشة وليس في الضاحية الجنوبية التي أحبّها السيّد وأمضى فيها معظم سنوات عمره؟ ألم يكن من الأجدى إقامة الاحتفال في مجمّع سيّد الشهداء ليكون الاحتفال إسمًا على مسمّى، أو حتى فوق ركام المجمّع الذي دمّرته اسرائيل واستشهد فيه نصرالله ليقولوا له من هناك “إنا على العهد باقون”، عوضًا عن استفزاز أهل العاصمة المختلطة دينيًا والتي لا تؤيد معظم فئاتها توجهات “حزب الله” السياسية؟!

-ألم يكن من المعيب أن ينكث “حزب الله” (على عادته) مجددًا بتعهده للحكومة بعدم إضاءة صخرة الروشة بصورة نصرالله وصفي الدين، واستغلال الجموع البشرية التي لمنع أي تدخل للقوى الأمنية، تمهيدًا لإضاءة الصخرة خلسة لدقائق معدودة؟!

-ألم يكن من المعيب والمستفز إطلاق شعارات “شيعة شيعة” في وسط بيروت، بعد لحظات من قول عريف الحفل بأن نصرالله لكل لبنان ودافع عن كل لبنان واستشهد فداءً له؟ فهل نصدّق عريف الحفل أم الحشود الشعبية؟!

-ألم يكن من المعيب بلوغ الحزب أقصى درجات الاستفزاز تجاه الطائفة السنية، ومن بيروت بالتحديد، عبر رفع صورة القاتل والقتيل معًا على صخرة الروشة، مع ما تحمله هذه اللفتة من تهديد مبطّن للمسؤولين الحاليين؟!

كلها أسئلة الإجابات عنها بسيطة وواضحة ومعروفة من الجميع، إلا من السلطة اللبنانية المصرّة على ما يبدو على نزع السلاح بالقرارات الحكومية والتصريحات الإعلامية. لكن على هذه السلطة أن تدرك قبل فوات الأوان أن شعار “من يخَف من الموت يمت من الخوف” ينطبق بالتحديد على الوضع الذي تتخبّط فيه.