
استحضار الطائف: استفاقة للإصلاح أم هروبٌ من صناديق الاقتراع؟
ليست هذه المرة الأولى التي يُستحضر فيها اتفاق “الوفاق الوطني “الذي استضافته مدينة الطائف في مثل هذه الأيام لطيّ صفحة الحرب اللبنانية، إلى واجهة النقاش السياسي. فمنذ العام 1989، ظل الاتفاق معلّقاً بين ما طُبّق منه وما بقي رهينة الأدراج، ليصبح أقرب إلى ورقة انتقائية يستخدمها اللاعبون الأساسيون وفقاً لمصالحهم. واليوم، يعود الرئيس نبيه بري والأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم إلى رفع شعار “تطبيق الطائف بحذافيره”، في لحظة سياسية لا تبدو بريئة، بل متشابكة مع الاستحقاق الانتخابي المقبل والنقاش المحتدم حول دور المغتربين في رسم الخريطة النيابية.
ورقة تُستدعى عند الحاجة
وغني عن التذكير أنه ومنذ ثلاثة عقود، لم يُطرح الطائف كخطة عمل وطنية شاملة بقدر ما جرى استدعاؤه كذريعة في محطات الأزمات. فإذا تعثّرت التسويات الداخلية، خرجت أصوات تطالب بتطبيق كامل لبنوده، من إلغاء الطائفية السياسية إلى إنشاء مجلس الشيوخ واللامركزية الإدارية. لكن سرعان ما يخفت هذا الخطاب حين تنفرج الأوضاع أو حين تفرض الحسابات الانتخابية مسارات أخرى. ولهذا، يصعب التعامل بجدية مع الدعوات الحالية من بري وقاسم، خصوصاً وأنها تأتي متزامنة مع تصاعد الحديث عن تعديل مادة حق اقتراع المغتربين.
ذلك أن الخشية من أصوات المغتربين ليست تفصيلاً في قاموس من يحسبون انهم سيضررون. التجربة السابقة في انتخابات 2022 أظهرت أن هذه الأصوات ساهمت في قلب موازين عدة مقاعد. ونظراً لأن غالبية المقيمين خارج لبنان لا تتبع التصويت التقليدي، فإن زيادة مشاركتهم قد تؤدي إلى تبديل التوازن الحالي في البرلمان. من هذا المنطلق، يبدو أن بعض الأطراف قد تفضّل الحفاظ على الوضع القائم أو، في حال وجود اعتراضات دستورية، تأجيل الانتخابات لحين معالجة هذه الإشكاليات.
تبريرات رسمية ومعارضة سياسية
المدافعون عن دعوة بري يقدّمونها كالتزام بالدستور. النائب محمد خواجة يؤكد في حديث إلى “المدن” أن مطالبة الرئيس بري بتنفيذ اتفاق الطائف “من الفه إلى يائه ليست جديدة، لذا فرضية أن الرئيس بري يتلطى خلف هذه المطالبة لتطيير الانتخابات ساقطة”. ويذكّر خواجة بأن “نواباً من كتلته تقدّموا منذ أكثر من سبع سنوات باقتراح قانون على أساس لبنان دائرة واحدة ومجلس شيوخ”.
ويضيف خواجة أن القوات اللبنانية والكتائب كانوا رأس حربة في الدفاع عن الدائرة 16 الخاصة بالمغتربين عند درس قانون الانتخابات، “ويومها اعتبر النائب جورج عدوان هذا التعديل نصراً كبيراً، ووافقت معه قوى أخرى كالكتائب وغيرها. ولكن، إذا كان ذلك إنجازاً حينها، فلماذا يعارضونه اليوم؟ ذلك القانون نصّ على أن يُخصص للمغتربين ستة مقاعد في الانتخابات التالية. نحن نقول بوضوح: هذا الأمر لا يمشي معنا. إذا كان للمغترب الحق بالاقتراع للـ128 نائباً، فلماذا لم يقولوا ذلك عندما صيغ القانون؟“.
ويتابع خواجة: “اليوم كحركة أمل لدينا عدد كبير من المغتربين، لكن لا بد أن تكون العملية الانتخابية قائمة على مبدأين أساسيين: أولاً المساواة وتكافؤ الفرص بين المرشحين، وثانياً حرية الناخب في البلد الضيف. وهذان الأمران غير متوافرين. أنا شخصياً عانيت في انتخابات 2022، وهناك مرشحون يستطيعون أن يجولوا في أميركا أو الخليج أو أوروبا بحرية، فيما آخرون، مثلي، لا يستطيعون ذلك. أين تكافؤ الفرص إذاً؟ ثم هناك حرية الناخب: الناخب المغترب يعيش في بلد أجنبي قد يتأثر بمناخه السياسي. إذا شعر بأن الدولة المضيفة تميل إلى فريق سياسي ضد آخر، فذلك سيؤثر على صوته“.
وينهي خواجة بالتشديد على أن “القوات اللبنانية هي الطرف الأكثر استعجالاً في تطيير الاستحقاقات، لأن هذا المجلس النيابي لا ينتخب رئيساً. والمتغيرات الإقليمية من الحرب الإسرائيلية الأخيرة إلى تبدّل موقع سوريا كلها عناصر لا يمكن فصلها عن التوازن الداخلي. ومن حقنا الطبيعي أن ندافع عن حضورنا السياسي ودورنا، لا من باب التعطيل، بل تحت سقف الديمقراطية وحرية الرأي وبما يحفظ السلم الأهلي“.
في المقابل، يرى المعارضون لهذا القانون أن كل هذا النقاش ليس سوى ستار للهروب من تعديله بما يحفظ حق المغتربين، أو فتح الباب أمام تأجيل الانتخابات.
قراءة قانونية
الخبراء الدستوريون يعتبرون أن أي مسار لتطبيق كامل بنود الطائف يحتاج إلى سنوات من التحضير وتوافقات سياسية عميقة. لذلك فإن طرح الملف عشية الانتخابات ليس سوى محاولة لكسب الوقت.
ويوافق على هذا التوصيف النائب وضاح الصادق الذي يقول لـ”المدن”: “لقد كنّا منذ البداية الأكثر تمسّكاً بالطائف، لكن لماذا لم يطبق الرئيس بري وحزب الله اتفاق الطائف منذ أربعة وثلاثين عاماً؟ من جهة، عطلت الوصاية السورية لمدة خمسة عشر عاماً تنفيذه، ومن جهة أخرى من كان في السلطة حاول الالتفاف عليه خمسة عشر عاماً أخرى. وعندما قلنا في العام 2022 بضرورة إعادة إطلاق الحركة السياسية وفق روحية الطائف، سلّموا البلاد لمن لا يريد تطبيق الاتفاق. واليوم يوجَّه إلينا السؤال: لماذا لا تطبّقون الطائف؟ بينما في الواقع المناورات الجارية تهدف إلى رمي التهم على الآخرين“.
ويضيف الصادق: “نحن كنواب، من حقنا أن نطالب بتعديلات على القانون الانتخابي وأن ندخل النقاش في اللجان. القانون النافذ يتضمن مادة انتخاب المنتشرين غير قابلة للتطبيق، والحكومة نفسها أقرت بذلك. فالنص يقول إنهم يصوتون لستة نواب مخصصين لهم، لكن التفاصيل لتنفيذ هذا النص هي من صلاحية المجلس النيابي حصراً. الحكومة ليست سلطة تشريعية لتحدد مثلاً من أي طائفة يجب أن يكون المرشحون أو كيف يحضر النواب الفائزون جلسات المجلس“.
ويؤكد الصادق أن الحكومة حين أعادت الكرة إلى المجلس قالت صراحة إن المادة لا يمكن تطبيقها، “والمطلوب أن يقرّر المجلس، لا أن تُعطى الحكومة صلاحيات تمسّ بصميم عمل السلطة التشريعية”. ويضيف: “ما يجري هو عرقلة متعمدة لحق النواب الطبيعي بأن يُعرض التعديل على الهيئة العامة ويُصوّت عليه. أما الحديث عن عدم تكافؤ الفرص بين المرشحين في الخارج، فقد يكون صحيحاً منذ ثلاثين سنة، لكن اليوم مع وسائل التواصل يمكن لأي نائب أن يخوض حملته الانتخابية“.
ما بين الإصلاح والذريعة
في الجوهر، تبقى معركة الانتخابات المقبلة محكومة بتناقض أساسي: هل يُستخدم الطائف كخريطة طريق لإصلاح النظام السياسي فعلاً، أم كأداة للهروب من مواجهة صناديق الاقتراع؟ حتى الآن، كل المؤشرات تميل إلى الاحتمال الثاني. فالمطلوب ليس استكمال مسار مؤجل منذ ثلاثة عقود، بل تجميد أي تعديل قد يطيح بتوازنات قائمة. ومع ذلك، قد تتحول هذه المناورة إلى سلاح ذي حدين: فإذا جرت الانتخابات في موعدها مع توسيع مشاركة المغتربين، ستكون الخسائر مضاعفة على من حاول التلاعب بالتوقيت والذرائع.
في المحصلة، لا يبدو أن دعوة بري وقاسم إلى تطبيق الطائف كاملاً تعكس إرادة إصلاحية بقدر ما تعكس حسابات انتخابية ضيقة. فالخشية من الصوت الاغترابي والقلق من تبدّل موازين القوى يدفعان إلى إعادة تدوير شعار قديم-جديد استُهلك في كل محطة مفصلية. وبينما يصرّ الرأي العام المحلي والدولي على إجراء الانتخابات في موعدها، يظل الطائف ورقة للاستخدام التكتيكي، تُرفع حين تشتد الأزمات وتُسقط حين تحين ساعة المحاسبة.