
بعض الأجهزة الأمنية تحجب تقاريرها عن رئاسة الحكومة
واحدة من الإشكاليات التي استطاع رئيس الحكومة نواف سلام عبر حادثة الروشة إخراجها إلى حيّز النقاش العلني هي صيرورة بعض الأجهزة الأمنية لاعبًا سياسيًا. لطالما لعبت هذه الأجهزة أدوارًا سياسية مختلفة الوزن والتأثير، سرًا وعلانية، ولا سيما في «جمهورية الطائف»، غير أن مقاربة تلك الأدوار كانت تحصل وفق منظور استقطابي حاد، سياسي أو طائفي، يتعذّر معه إجراء معالجة جدية. فيما الفارق هذه المرة أن المقاربة تتم وفق معايير الشرعية والقانون.
فرئيس الحكومة ليس زعيم حزب سياسي أو طائفي يبحث عن نفوذ أو تطويع جهاز، بل رجل دولة يسعى إلى ممارسة صلاحياته الدستورية. ذلك أن امتناع بعض المؤسسات الأمنية عن تنفيذ قرارات الحكومة ليس الأول، ما يشي بوجود نهج مؤسسي غير قانوني، أججه أكثر توقيف الشيخ الشيعي المعارض لـ «حزب الله»، عباس يزبك، بناء على وثيقة اتصال، حيث سبق أن أصدر الرئيس سلام مطلع حزيران الماضي، مذكرة قضت بإلغاء العمل الفوري بوثائق الاتصال ولوائح الإخضاع، غير القانونية في الأساس، والتي لطالما استندت إليها الأجهزة الأمنية لتوقيف واعتقال مئات المواطنين وتغييبهم في السجون.
والحال أن ردة فعل رئيس الحكومة على كمين الروشة لم تتسم بالانفعال، كما صورت الآلة الإعلامية الممانعة، وخصوصًا النائب حسن فضل الله الذي لا بد من تذكيره بأنه خرج على الإعلام بانفعال واضح لتهديد الدولة وابتزاز السلم الأهلي، من أجل اعتقال عدد من أبناء عشائر العرب غداة حادثة خلدة. لم يطلب الرئيس سلام غض البصر عن شحنة سلاح أو مخدرات، ولم يندفع لتأسيس عصبية مذهبية، بل سعى إلى توظيف ما حصل من أجل إصلاح علاقة ملتبسة مع المؤسسات الأمنية، فأصرّ على عقد اجتماع مع وزيري الدفاع والداخلية، وأتبعه باجتماع مع المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء رائد عبدالله بعدها بأيام.
فما لا يعرفه الجمهور أنه ثمة أجهزة تحجب تقارير الإحاطة الأمنية، ولا سيما مؤخراً عن رئاسة الحكومة، مما اضطر الرئيس سلام الى محاولة إصلاح هذا الاعوجاج عبر السبل القانونية.
لا يوجد دولة تتمتع بالحد الأدنى من المعايير الديمقراطية سوى لبنان يكون فيها رئيس السلطة التنفيذية مقصيًا عن التقارير الأمنية، فيما تتسرب عبر قنوات منظمة إلى قيادات هياكل موازية من خارج دوائر الدولة. تقول المادة 64 من الدستور، المعدّلة في «الطائف»، إن رئيس مجلس الوزراء هو «المسؤول عن تنفيذ السياسة العامة التي يضعها المجلس، وضمنًا السياسات الأمنية»، ولا سيما أن الفقرة الأولى من المادة تقول بوضوح إن رئيس الحكومة يكون حكمًا نائب «رئيس المجلس الأعلى للدفاع»، والذي «يتولى السهر على تنفيذ مقرراته»، حسب «التنظيم العام للدفاع الوطني».
حجب تقارير بعض الأجهزة الأمنية عن رئيس الحكومة يذكّر بحادثة مماثلة واجهها الرئيس رفيق الحريري مطلع حكمه، حيث كان يحصل على شذرات معلومات أمنية عبر علاقاته وليس بشكل مؤسسي، بما دفعه إلى تطوير شعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي، عبر المرسوم رقم 3904 تاريخ 6 آب 1993، الذي حوّلها إلى فرع، وأضاف إلى مهماتها دورًا في المنظومة الاستخباراتية الوطنية. وكان اللواء أشرف ريفي المؤسّس الفعلي لشعبة المعلومات الذي وضعها على سكة التحول إلى جهاز استخباراتي قوي وفعال.
لا يضع الرئيس سلام في حسبانه تأسيس جهاز ولا تطوير آخر، كما أنه ليس بوارد التكيف مع هذا الخرق القانوني الذي يسلبه جزءًا من صلاحياته، ولديه العديد من الخيارات المتاحة، لتصويب هذه العلاقة الإشكالية. تبدأ بالتوجه المباشر إلى الرأي العام عبر مؤتمر صحافي لوضعه في صورة ما يحصل بشكل صريح، وتمرّ بالإدعاء على قيادات أمنية أمام القضاء لمخالفتها القانون، وتصل إلى حد استخدام توقيعه، وخصوصًا على المخصصات السرية.
بيد أنه لا يزال يصرّ على معالجة الأمور بطرائق سلسة للحفاظ على تماسك مؤسسات الدولة في المواجهة الحاسمة التي تخوضها مع دويلة «حزب الله». ينطلق من الروحية التي اكتسبها خلال سنيّ إقامته ما بين «نيويورك» و»لاهاي»، والتي تمزج بين الدبلوماسية والعقلية الأوروبية الباردة, لطرح مسائل خلافية على الطاولة ومناقشتها بشكل نقدي هادئ وهادف.