
نصيحة للبنان بالاكتفاء بما دفع من أثمان بدلاً من السلاح؟
هل ينتصح المتمسكون بالسلاح بعد فقدان وظائفه الداخلية والإقليمية ويكتفون بما دفعناه من أثمان؟ أم انّ المكابرة ستنقل تجربة غزة إلى لبنان؟ وهل يتحمّل اللبنانيون مشهداً مماثلاً بلما يجري هناك ثمنا لسلاحهم؟
كان كافياً أن يُصدر البابا لاوون الرابع بيانه دعماً لخطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الخاصة بوقف الحرب في غزة، ليطفح به الكيل. فإلى المجموعات الدولية والقارية، الغربية والعربية والآسيوية التي أعلنت ترحيبها بالخطة، رحّبت الصين وروسيا، وبقي على إيران أن تقول كلمتها قبل أن تقول “حماس”، وإن قيست مواقف قطر وتركيا ومصر المؤشر الأفضل لما سيكون عليه موقفها، فإنّ المهلة التي أُعطيت لها، كافية لتبيان مجرى الأحداث من بعدها. وعليه، ما الذي يُنتظر في هذا الخصوص؟
يقول العارفون من بين الديبلوماسيين البارزين، إنّ قلائل فوجئوا بالصيغة التي طرحها الرئيس الأميركي لوقف الحرب في غزة، ذلك أنّ معظم بنودها كان مطروحاً، قبل أن يسجّل الجدول الخاص بالشهداء في قطاع غزة والضفة الغربية الثلاثين ألفا، وقبل أن يتضاعف ويقترب من سبعينيته، وزاد عدد الجرحى والمعوقين على 220 الفاً وعدد المفقودين يتراوح بين 20 الفاً و23 الفاً ما زالوا مدفونين تحت الأنقاض في أكثر من حي ومبنى ومؤسسة تمّ تدميرها بكاملها. وهو أمر لا يمكن الفصل في تثبيت أرقامه قبل الكشف عن عدد “مفقودي الأثر” والمعتقلين الأحياء والجثث لدى الجهات الإسرائيلية المختلفة بين أجهزة الأمن والشاباك، وغيرهما من الأجهزة الأمنية والمخابراتية المختلفة.
على هذه الخلفيات، تعمّق أحد الديبلوماسيين في شرحه للوضع، قبل التوغل عميقاً في قراءة البنود الـ21 وظروف كل منها، من دون العودة إلى تاريخ بعض الأفكار التي كانت مطروحة، وقد تجاوزتها الأحداث في مناسبات قليلة ومحدودة من الفلسطينيين والوسطاء العرب، وأكثريتها من نتنياهو وفريق عمله من الوزراء المتشدّدين. ومن دون الدخول إلى أكثرية هذه البنود وتصنيفها، عبّر عن اعتقاده بأنّ أبرزها كان مطروحاً إبّان الهدن الإنسانية الخمس من مطلع العام 2024 إلى منتصفه، التي تمّ التفاهم عليها لفترة امتدت في منتصف السنة الأولى من الحرب التي اقتربت من إكمال عامها الثاني بعد أيام. وهو أمر قاد المستفسرين عن هذه النظرية إلى طلب مزيد من التفاصيل، التي ما لم يبخل بها الديبلوماسي العتيق، الذي قال بكل بساطة، إنّ هناك عوامل عدة قادت إسرائيل إلى إطالة عمر الحرب بلا تردّد، ذلك أنّ بعض المعارضات الإسرائيلية كانت كاذبة، وشكّلت مناسبة لدفع المتشدّدين الذين يتقدّمهم نتنياهو إلى المضي في الحرب، خصوصاً انّ بعض الممارسات دفعت إلى تبادل الأدوار بين أركان الحرب الحاليين والمعارضين، الذين يدّعون ضرورة اللجوء إلى الحلول الديبلوماسية. فبعض الخيارات كانت سخيفة إلى درجة لم تؤثر على أكثرية الآراء الإسرائيلية التي كانت ترغب بإنهاء الحرب لتكون آخر الجولات في تاريخهم الحديث، ليس على مستوى الداخل الفلسطيني فحسب، إنما على مستوى المحيط العربي ودول الجوار الإسرائيلي تحديداً، وما كان يسمّى “دول الصمود والتصدّي”، وصولاً إلى الخطر النووي الإيراني.
ويضيف هذا الديبلوماسي، انّ ما حصل في المرحلة الأولى من الحرب ما لم يكن متوقعاً، والإدارة العميقة الإسرائيلية التي تديرها بعض مراكز الدراسات المعتمدة لدى أجهزة المخابرات وتترجمها الديبلوماسية الإسرائيلية، رأت في محطات عدة، انّ ما بلغته الحرب شكّل مناسبة تاريخية قد لا تتكرّر في العقود والقرون المقبلة. وإنّ أولى حلقات التشاور الأميركية والخليجية التي اعترض عليها الجانب الإسرائيلي ونجح في تعطيلها، كانت قد خلصت إلى تفاهم يجمع ثلثي البنود الحالية في مشروع النقاط الـ 21. ولكن الظروف جاءت لتساند الجانب الإسرائيلي على المضي في الحرب وتقديم صورة جديدة لها، على عكس تلك التي كانت تقول إنّها لا تهوى، او إنّها لا تستطيع ان تخوض الحروب الطويلة الأجل من دون أن تنتصر. كما انّه لا يمكنها أن تتغاضى ولو لمرّة واحدة عمّا يقول به “قانون هنيبعل” عند التعاطي مع أسير إسرائيلي واحد، فكيف بوجود المئات منهم لدى “حماس” وأخواتها، وعائلات فلسطينية مختلفة استفادت من العبور إلى عمق الأراضي الفلسطينية المحتلة لساعات قليلة في السابع من تشرين الأول 2023.
ويتعمّق الديبلوماسي في خلفيات الأحداث، فيقول إنّ حرب “الإسناد والإلهاء” كانت الطبق الذهبي الثاني الذي تفوّق لربما على عملية “طوفان الأقصى” في التصلّب الاسرائيلي والموقف الدولي الداعم له. وجاءت عملية اغتيال الامينين العامين لحزب الله الشهيدين حسن نصرالله وهاشم صفي الدين بفارق ايام قليلة لتشكّل الحافز الأكبر على المضي في الحرب، خصوصاً انّها تلت عمليات استخبارية وعسكرية قاتلة أكثر مما كانت قاسية او موجعة، قد لا يحتملها أي تنظيم آخر من غير التنظيمات الجهادية والعقائدية كمثل ضربات “البيجر” و”الووكي توكي” واغتيال قيادة قوة “الرضوان” في اقل من اسبوع واحد، لتتغيّر الاستراتيجية الإسرائيلية كاملة في شأن الحرب. والاطمئنان إلى انّ تحييد “حزب الله” وقواه العسكرية ومعه بقية القوى المنضوية تحت شعار “وحدة الساحات” التي انزوت تلقائياً من سوريا إلى العراق، قبل أن يتحرك اليمن، يمكن أن تغيّر في مجرى الحرب بطريقة تقلبها رأساً على عقب، وهو ما ثبت تأثيرها لاحقاً على مجرياتها ووقائعها المذهلة”.
ويضيف الديبلوماسي نفسه: “بكل صراحة، اغتيال السيد نصرالله كان كافياً لتجميد عمل بقية قوى المحور وتعطيل فاعليتها نهائياً، خصوصاً أنّ سوريا الاسد حيّدت نفسها منذ اللحظات الأولى، وقد تبرأ رئيسها من القوى الإسلامية المتطرفة في توصيف لم يَطَل سوى “حزب الله” و”حماس” وأخواتها العراقية، التي تحاشت التدخّل نصرة لغزة، وبقي اليمنيون بعد اللبنانيين في المواجهة إلى أنّ تحولت الأمور إلى نكبة حقيقية بكل معنى الكلمة، فتوسّع شلال الشهداء في لبنان، وإن لم يقترب من شلال غزة فإنّه تجاوز شلال اليمن، وما دفعه اليمنيون في الفترة الأخيرة من مسؤولين يتقدّمهم رئيس الحكومة وفريقه الوزاري وعدد من الضباط الكبار”.
وانطلاقاً من هذه النظرية، يخلص الديبلوماسي إلى القول: “لو لم تتأكّد إسرائيل من قضائها على قوة “حزب الله” الصاروخية، وأثبتت عدم حاجتها لعدم توفيرها مقومات الردع وتوازن القوى، سهّل عليها الإسراع في إسقاط نظام الأسد، وبات ضرب إيران ومفاعلاتها النووية ممكناً وبأقل كلفة. ولذلك وضماناً للنتائج الكبيرة المتوخاة، نجحت القوة الإقليمية باستدراج قوة عظمى هي الولايات المتحدة الاميركية إلى المعركة إلى جانبها. فكان ما كان وما هو متوقع قد يكون أفظع في لبنان او في إيران على حد سواء”.
وعليه، انتهت قراءة الديبلوماسي إلى نتيجة طبيعية ومنطقية، تدعو اللبنانيين و”حزب الله” تحديداً ومن خلفه “الثنائي الشيعي”، إلى التزام تنفيذ ما هو مطلوب لجهة “حصر السلاح” بالجيش والقوى الشرعية، والاكتفاء بما دفعه اللبنانيون من أثمان، قبل أن تتطور الامور مرّة اخرى لتساوي الأثمان قياساً على ما دفعته “حماس” ومعها بقية الفلسطينيين حتى اليوم، وتدمير قطاع غزة وسقوط عشرات الآلاف من الشهداء وأضرار بمليارات الدولارات، جعلت القطاع غير مؤهّل للسكن.
فهل ينتصح المتمسكون بالسلاح بعد فقدان وظائفه الداخلية والإقليمية، ويكتفون بما دفعناه من أثمان؟ أم أنّ المكابرة ستنقل تجربة غزة إلى لبنان؟