
5 تشرين الأول: في أيّ اتجاه ستتحرك عقارب الساعة؟
في 5 تشرين الأول، سيكون الجيش قد أعدّ تقريره. ويفترض أن يلتئم مجلس الوزراء في اليوم التالي للاطلاع عليه. وحينذاك، سيعرف اللبنانيون في أي اتجاه ستتحرك عقارب الساعة في البلد: إلى الأمام أم إلى الوراء. ومع أنّ العالم كله يعرف مسبقاً مضمون التقرير، فإنه يترقب لحظة صدوره رسمياً ليبني على الشيء مقتضاه
يترسخ الانطباع بأنّ لبنان الرسمي يميل أكثر فأكثر إلى الهروب من استحقاق حصر السلاح. وفكرة “الهروب” راسخة في تراث الممارسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في لبنان، منذ عشرات السنين. فالسياسيون والمسؤولون يفضلون دائماً تأجيل الحسم والمواجهة مع الواقع، لعل الوقت يحمل الفرج إليهم من مكان ما، فلا يتصادم اللبنانيون ولا أحد “يسوِّدُ” وجهه مع أحد. لكن هذا الهروب تسبب بكل كوارث البلد، من حرب 1975 وما تلاها إلى حرب 2023 وما وصلنا إليه.
عنوان الهروب، الذي سيتحرك لبنان الرسمي في ظله خلال المرحلة المقبلة، هو إلقاء اللوم على إسرائيل: فلتنسحب وتوقف عملياتها وتسمح بإعمار القرى وعودة الأهالي والأسرى، وبعد ذلك لكل حادث حديث. وفي اعتقاد غالبية المسؤولين والسياسيين أنّ هذا أسهل الخيارات وأقلها تسبباً بوجع الرأس، لأنه يعلّق مسألة نزع السلاح إلى “المجهول”، علماً أنّ قرار نزع سلاح التنظيمات غير الشرعية هو سابق للحرب مع إسرائيل بعشرات السنين. إنه مطلب لبناني أولاً، وقد نصّ عليه اتفاق الطائف في العام 1989.
على أرض الواقع، كأنّ ما يجري حالياً هو عملية “تواطؤ مؤسساتي” بين الدولة و”الحزب”. ربما يكون هذا التوصيف قاسياً إلى حدٍّ ما، وقد لا يكون دقيقاً، لكنه صحيح من حيث النتائج العملية. وهذا التواطؤ يكرّس الأزمة بل يفاقمها.
الموعد الحاسم الذي ينتظره الجميع، في لبنان كما في الخارج، هو 5 تشرين الأول، المحدد لإصدار الجيش تقويمه الأول حول خطة حصر السلاح. ففيه ستتحدّد وجهة التعاطي مع الملف. ولكن، من دون الحاجة إلى انتظار التقرير، النتيجة معروفة: “صفر”. وهي ستبقى كذلك حتى إشعار آخر، لأنّ أصحاب السلاح يعلنون التشبث به حتى الرمق الأخير، فيما الدولة تتجنب المواجهة وترمي كرة النار في مكان آخر لئلا تتصدى للحقائق الصعبة. وسيبتدع التقرير صياغة “منطقية” للتعبير عن هذا “الصفر”. وفي الواقع، هذا أقصى ما يمكن أن تفعله المؤسسة العسكرية مهنياً. فهي تلتزم قرارات السلطة السياسية بدقة وأمانة، وليس شأنها ابتداع سياسات خاصة، بل هذا اختصاص السلطة.
وسط هذا المناخ، سرت “شائعات” لم يُعرف مصدرها، ومفادها أَنّ “حزب الله” سلم الجيش أسلحة في البقاع خلال اليومين الأخيرين. ولا أحد يعرف أي تفصيل آخر عن الموضوع، وما إذا كان إطلاق هذه الشائعات مقصوداً لتنفيس الضغط الذي يتعرض له “الحزب” والدولة في آنٍ معاً. لكن الواضح أنّ شيئاً من هذا القبيل لم يحصل.
تكتيك رمي الكرة في ملعب إسرائيل وحدها يهدف إلى إبعاد النار من الداخل، لكنه على الأرجح سيضع لبنان في مأزق دولي لا فكاك منه. فالأميركيون والأوروبيون والعرب، وطبعاً إسرائيل، سيجدون فيه دلالات خطرة أبرزها أنّ لبنان الرسمي يهرب إلى المناورة السياسية. والأسوأ هو أنّ نتنياهو سيستغل هذا الموقف بأشكال مختلفة، بإظهار الدولة وجيشها وكأنهما عاجزان أو متناغمان مع منطق “حزب الله”. وسيجد تبريراً مجانياً للتشدد في التعاطي مع لبنان.
كما أنّ المجتمع الدولي الذي يتفحّص الرسائل اللبنانية بدقة سينتقد التلكؤ، وسيكون رده قاسياً، إذ سيفعِّل آليات العقاب التي ربما بدأت تلوح في الأفق، مع ما صدر عن صندوق النقد الدولي. وستتحول الانتقادات اللاذعة لتوجهات الحكومة إلى تجميد فعلي للمساعدات والمنح التي يعوّل عليها لبنان، فينزلق مجدداً إلى مساره القديم الفاشل. وفي هذا السياق، ربما جاء الحديث عن احتمال تأجيل مؤتمر دعم الجيش.
وكذلك، مع تفعيل “ميكانيزم المراقبة” الأميركية لوقف النار في الجنوب، يعود بنيامين نتنياهو بمعنويات عالية من الولايات المتحدة. وسيستغل الوضع لرفع مستوى الضغط على لبنان من خلال لجنة المراقبة، برعاية مورغان أورتاغوس، بحيث تتحول منصةً للمحاسبة المباشرة، مع ما يعنيه ذلك من احتمالات التصعيد الإسرائيلي.
إذاً، لبنان لم يستفد من دروس التاريخ والحروب الأهلية، ومعها العزلة الدولية والعربية، وتفاقم التعثر الاقتصادي، وتصعيد الصراع الداخلي بين دعاة الدولة ورافضيها. وهذا الجو هو الوصفة المثالية لتأجيج الوضع العسكري جنوباً في أي لحظة.
في 5 تشرين الأول، سيكون الجيش قد أعدّ تقريره. ويفترض أن يلتئم مجلس الوزراء في اليوم التالي للاطلاع عليه. وحينذاك، سيعرف اللبنانيون في أي اتجاه ستتحرك عقارب الساعة في البلد: إلى الأمام أم إلى الوراء. ومع أنّ العالم كله يعرف مسبقاً مضمون التقرير، فإنه يترقب لحظة صدوره رسمياً ليبني على الشيء مقتضاه. ولكل حادث حديث.