
تركيا عطّلت ترتيبات سوريا وإسرائيل لقطع الطريق على ممر داوود
يلتبس الموقف الأميركي على دول وجهات عديدة حتى يبلغ حدّ التناقض. تحار الجهات المتعددة في كيفية مقاربة مواقف الولايات المتحدة والتي تميل دوماً إلى جانب إسرائيل ومصالحها. ولكن على مستوى فلسطين، لبنان، وسوريا، وحتى دول المنطقة، الجميع يجد نفسه مضطراً إلى التعاطي مع الإشارات المتناقضة التي ترد من واشنطن. ففي غزة مثلاً يتمسك دونالد ترامب بخطته لوقف النار وهي تتبنى الشروط الإسرائيلية بشكل كامل بعدما رفض نتنياهو التعديلات العربية عليها. ومن ضمن خطة وقف الحرب لا تشير أميركا إلى أي دور للسلطة الفلسطينية، التي تتعرض لعملية خنق تقوم بها إسرائيل التي تواصل عملية توسيع الاستيطان فيها. وفي تبنيه للأهداف الإسرائيلية يكشف ترامب ضغوطه على حماس والدول العربية. وفي حال عدم الموافقة على المقترح، هو يمنح الغطاء الكامل لتل أبيب كي تقوم بتكثيف وتصعيد عملياتها العسكرية.
في لبنان، تنصلت واشنطن من دورها كضامن لوقف العمليات العسكرية الإسرائيلية، وعادت لتفرض شروطاً متلاءمة مع الشروط الإسرائيلية، ما يمنح إسرائيل هيمنة واضحة على الأجواء اللبنانية وحتى في البرّ، إضافة إلى تغطية المطلب الإسرائيلي بإقامة منطقة عازلة في الجنوب. وهنا يقرأ اللبنانيون المواقف الأميركية بطريقة متناقضة أيضاً، بين من يعتبر أن ضغطها سيزداد وقد يمنح إسرائيل غطاء لتصعيد عملياتها العسكرية، في موازاة زيادة الضغوط الإقتصادية لجعل لبنان في حال ترهل واهتراء. وآخرون يعتبرون أن واشنطن تبدو متفهمة للواقع اللبناني، وتريد الحفاظ على المؤسسات والجيش وعدم تعرّضه لأي اهتزاز، وأن هناك تفهماً لآلية التعاطي في موضوع سحب السلاح، وهو ما يفترض أن يظهر أكثر في إجتماع لجنة مراقبة وقف إطلاق النار في 15 تشرين الأول الحالي حيث يفترض أن تزور الموفدة مورغان أورتاغوس بيروت للمشاركة في الاجتماع وعقد لقاءات سياسية.
وكذلك في سوريا، التناقض يظهر بوضوح. فلا تخفى المواقف الأميركية التي تشير الى احتضان الرئيس أحمد الشرع ودعم تجربته وتثبيت الاستقرار هناك وخلق تفاهمات مع مختلف المكوّنات، وفي المقابل، هناك غطاء ممنوح لإسرائيل في تصعيد عملياتها العسكرية واستمرار احتلالها لأراضي سوريا بما يتجاوز اتفاقية العام 1974. وفيما كان الرئيس الأميركي دونالد ترامب يأمل في إنجاز الاتفاق الأمني بين سوريا وإسرائيل، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، فإن ذلك لم يتحقق بسبب عدم الاتفاق على نقاط عديدة، أبرزها استمرار سيطرة إسرائيل على نقطة مرصد جبل الشيخ وتل الحارة، إضافة إلى الكلام الإسرائيلي عن المطالبة بممر إنساني إلى السويداء، وهو ما يرفضه الشرع بالمطلق، كما أن المبعوث الأميركي توم باراك عبَّر عن رفضه له من خلال تشديده على وحدة الأراضي السورية تحت سلطة دمشق.
تنتظر دمشق الخروج من تعقيدات كثيرة، أبرزها معالجة ملف السويداء، وملف العلاقة مع الأكراد والعودة إلى اتفاق 10 آذار، إضافة إلى إجراء مصالحة مع الساحل السوري وجبال العلويين، كذلك الوصول إلى تفاهم مع إسرائيل. في الموازاة، كانت للرئيس الأميركي مواقف واضحة خلال استقباله الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. فقد أشاد به، وتوجّه إليه بالقول: “هذا الذي أسقط بشار الأسد، وهذا الذي فاز في سوريا”. ويحمل كلام ترامب إشارات واضحة إلى التوجّه الأميركي نحو تدعيم العلاقة مع تركيا في سوريا. وهو في ذلك ينسجم مع توجهات توم باراك.
في هذا السياق، تكشف مصادر متابعة أن أردوغان كان له الدور الأبرز في إعاقة الوصول إلى أي تفاهم على الترتيبات الأمنية بين سوريا وإسرائيل. فسوريا تشهد نزالاً إسرائيلياً- تركياً واضحاً منذ الأيام الأولى لسقوط نظام الأسد. وحينما قررت أنقرة توسيع وجودها العسكري في سوريا، وإقامة قواعد في وسط البلاد، ولا سيما في حماه وحمص، عملت إسرائيل على استهداف أرضية هذه القواعد، وأعلن الإسرائيليون صراحة رفضهم أن تكون سوريا قاعدة متقدمة لتركيا. أما بالنسبة إلى أنقرة، فهي تعتبر أن لدى إسرائيل مشروعاً يهدد الأمن القومي التركي. وينظر الأتراك إلى الممر الإنساني نحو السويداء، باعتباره فاتحةً لطريق يربط بين المحافظة وشمال شرق سوريا. لذلك، كانت هناك محاولات من تركيا للدخول إلى الجنوب السوري. وهنا يجدر التذكير بالإنزال الذي نفذه الإسرائيليون قبل فترة في منطقة الكسوة، في ريف دمشق الجنوبي، وتسربت أخبار مفادها أن الإنزال استهدف تفكيك أجهزة تعود لتركيا. بينما الرواية الأخرى تشير إلى أن أنقرة اكتشفت أجهزة تجسس إسرائيلية وسعت إلى تفكيكها، لكن إسرائيل منعت ذلك باستهداف العناصر السوريين الذين دخلوا إلى الموقع لتفكيك الأجهزة، ومنع الطيران الإسرائيلي أياً كان من الدخول إلى تلك النقاط وسحب الجثث، وبعدها حصل الإنزال من جانب تركيا للحصول على هذه الأجهزة.
قبل فترة، وفي معرض البحث عن مستقبل الجنوبين السوري واللبناني، عرضت تركيا أن تعزز حضورها العسكري من ضمن القوات الدولية المشاركة في إطار قوة الأمم المتحدة، وهذا العرض قوبل بالرفض. فإسرائيل تريد قوات متعددة الجنسيات في لبنان لتخلف قوات اليونيفيل أو تفضل تدعيم عمل لجنة مراقبة وقف إطلاق النار، بوصفها هي الجهة التي تعمل على التنسيق مع الجيش اللبناني في تحركاته جنوباً. أما في سوريا، فإن إسرائيل تعرض منطقة خالية من السلاح، وكانت قد عرضت سابقاً نشر قوات من الشرطة من الدروز في السويداء، مع اقتراح إدخال فرق من سوريا الديمقراطية إلى الجنوب السوري لضمان “الاستقرار” فيه.
يريد الأتراك الدخول الى جنوب دمشق لقطع الطريق على أي محاولة لإنشاء ممر داوود، الذي تريد إسرائيل فتحه من السويداء في اتجاه مناطق شمال شرق سوريا، إلى جانب إعلانها الاستعداد لفتح ممر إنساني إلى السويداء. فهذا الممر تنظر إليه تركيا كتهديد جدي على الأمن القومي التركي، وترى أنه سيؤدي إلى تعزيز قوة الأكراد ودورهم في شمال شرق سوريا، كما أنه سيكون بمثابة منفذ لإسرائيل يصل حتى حدود تركيا، ويمنحها القدرة على التدخل في المجال الحيوي التركي.