فرصةٌ ضائعة في الجنوب… طار نزع السلاح

فرصةٌ ضائعة في الجنوب… طار نزع السلاح

الكاتب: مرلين وهبة | المصدر: الجمهورية
3 تشرين الأول 2025

في خضم الأجواء الإيجابية التي رافقت إعلان وقف العمليات العدائية، كانت هناك فرصة حقيقية، ربما تكون الأخيرة من نوعها، لإعادة رسم خريطة القوّة في جنوب لبنان. لكنّ تحليلات عميقة ومعلومات مسرّبة من قلب المفاوضات اللبنانية، تكشف سرداً مختلفاً تماماً؛ قصة فرصة ضائعة، وسلسلة من الأخطاء الحسابية والقرارات المتعمّدة لدى أطراف دولية وإقليمية، حوّلت اتفاق الهدوء الهش مجرّد محطة استراحة تتخلّلها خروقات واغتيالات، قبل جولة جديدة من التوتر.

النصيحة التي لم يسمعها الأميركيون: «كنّا سنُسلّم السلاح»

يكشف مسؤول لبناني كبير، مطّلع على تفاصيل المفاوضات، عن مفارقة صادمة. «لو استمع الأميركيون جيّداً إلى النصائح اللبنانية وأخذوا بها»، يؤكّد المسؤول، «لكانت معظم ترسانة سلاح الحزب قد سُلِّمت من الجنوب وصولاً إلى البقاع». هذه ليست مجرّد أمنية، بل كانت خطة طريق قدّمها الجانب اللبناني إلى الوفد الأميركي المفاوض في الأسابيع الأولى لسريان الاتفاق.

الفكرة كانت بسيطة وذكية: إنجاز ملموس ومبكر على الأرض، يبني الثقة ويفتح الباب أمام خطوات لاحقة أكبر، فيما كان «حزب الله» في أصعب وأضعف حالاته.

ووفقاً لتقارير أمنية رسمية، فإنّ مرجعاً مسؤولاً كان قد أبلغ إلى الوفد الأميركي نصيحة حاسمة: «اضغطوا على إسرائيل لتنسحب فوراً من النقاط الخمس التي تحتلها في جنوب لبنان، حتى قبل انتهاء مهلة الـ60 يوماً». كان الهدف من هذه النصيحة كسر حلقة الشك المتبادل، وتقديم دليل ملموس لأبناء الجنوب بأنّ الاتفاق ليس مجرّد حبر على ورق، وأنّ الدولة اللبنانية، مدعومة دولياً، وقادرة على فرض سيادتها.

الخطيئة الإسرائيلية

لكنّ الإسرائيليين، كما يبدو، كانت لهم حسابات أخرى. رفضت حكومة الاحتلال الانسحاب، واصفةً المطالب اللبنانية بأنّها «مبكرة». هذا القرار، الذي قد يبدو تكتيكياً من منظور عسكري ضيّق، كان كارثياً من منظور استراتيجي سياسي. لقد أفسح المجال أمام «حزب الله» ليُعيد بناء علاقته مع أبناء الجنوب على أنقاض الحرب المدمّرة. فبدلاً من أن يَظهر الحزب مسؤولاً عمّا أصاب الجنوب والضاحية الحنوبية لبيروت والبقاع من كوارث وكعقبة أمام استقرار الجنوب، ظهرت إسرائيل كطرف لا يحترم اتفاقاته، ويستمر في خرقها ويُشكّل تهديداً للشيعة.

هنا، تتقاطع التحليلات اللبنانية مع ما تنشره وسائل إعلام غربية. فصحف مثل «الغارديان» البريطانية و«لوموند» الفرنسية، أشارت في تحليلاتها إلى أنّ «سياسة حكومة نتنياهو تعتمد على إبقاء «حزب الله» كـ«شيطان» مفيد، يُبرّر استمرار التهديد العسكري ويمنع قيام دولة لبنانية قوية ومستقرة ويحول دون استعادة لبنان دوره في المنطقة». أمّا في الداخل الإسرائيلي، فإنّ محلّلين في «هآرتس» قد حذّروا من أنّ «عدم الانسحاب يمنح «حزب الله» انتصاراً سياسياً على طبق من فضة، ويُعزّز شعبيته أكثر من أي صاروخ أطلقه».

السؤال الجوهري: هل تريد إسرائيل حقاً نزع سلاح الحزب؟

هذا يقودنا إلى السؤال الذي يطرحه المسؤول اللبناني الكبير بجرأة: «هل فعلاً تريد إسرائيل نزع سلاح «حزب الله» وحصرية السلاح بيد الدولة اللبنانية؟». في اعتقاد هذا المسؤول، إنّ بقاء الوضع على ما هو عليه – «دولة ضعيفة» و«حزب قوي» – بقواعد اشتباك لمصلحة إسرائيل يخدم المصالح الإسرائيلية في الحفاظ على الوضع الراهن.

مرونة الحزب

على رغم من التصريحات النارية التي يطلقها قادة الحزب، يرى المسؤول اللبناني أنّ الواقع قد يكون أكثر مرونة. «الحزب قد يكون مستعداً لإبداء المرونة والتجاوب مع قرار الحكومة والمجتمع الدولي بحصرية السلاح، ولكن في إطار تبادل منافع». المشكلة، بحسب المسؤول، هي أنّه «لم يُقدَّم أي شيء للحزب حتى الآن في مقابل تسليم سلاحه الثقيل». فـ«حزب الله»، كأي فاعل سياسي، لا يمكن أن يُنزع سلاحه مجاناً. هو يُريد ضمانات، ويرى أنّ لا المجتمع الدولي ولا الدولة اللبنانية، بدعمها الدولي الضعيف والمتردّد، قادرة حتى الآن على تقديم هذه الضمانات.

خيبة الأمل الدولية

وهنا يكمُن جوهر المأزق. إذا كان الأميركيّون والمجتمع الدولي جادّين في تنفيذ القرار الدولي بحصرية السلاح، فلماذا لا يُقدّمون الدعم الحقيقي والفعلي للجيش اللبناني ليقوم بهذه المهمّة؟ يكشف المفاوض اللبناني عن نقطة حاسمة: «لم نرَ شيئاً ملموساً حتى الآن. من المهم تقديم المساعدات للجيش، ولكن الأهم أن تكون هذه المساعدات بحسب الحاجات التي تُحدّدها قيادة الجيش نفسها، وليست مساعدات تُحدّدها أطراف مانحة لمجرّد المساعدات».

هذه النقطة تلامس جوهر الأزمة. فوسائل إعلام أميركية مثل «واشنطن بوست»، قد أشارت مراراً إلى «الشلل السياسي في الكونغرس» الذي يُعرقل صفقات أسلحة استراتيجية للبنان، خوفاً من أن تقع في أيدي «حزب الله» في المستقبل. وهو ما يصفه المحلّلون في «فورين بوليسي» بـ«المفارقة العظيمة»: «نحن نطالب الجيش اللبناني بملء فراغ أمني هائل، لكنّنا نرفض تسليحه بما يكفي لتحقيق ذلك، ممّا يُبقيه ضعيفاً ويُعزّز الحاجة إلى «حزب الله» كحامٍ لبيئته».

حلقة مفرغة

الصورة التي تتشكّل من هذه المعطيات هي صورة حلقة مفرغة مأسوية. إسرائيل ترفض الانسحاب، فتُعزّز شعبية «حزب الله». المجتمع الدولي يطالب بنزع سلاح الحزب، لكنّه يرفض تعزيز الجيش. و«حزب الله»، الذي يرى أنّ لا شيء يُقدَّم له في المقابل، يُفضّل الاحتفاظ بسلاحه كورقة ضغط أساسية.

إنّ فرصة تسليم السلاح شمال الليطاني لم تكن مجرّد تكتيك، بل كانت بوابة لكسر هذه الحلقة. إنّ إحباطها، سواء كان بسبب سوء تقدير أميركي أو عناد إسرائيلي متعمّد، قد يكون قد دفع جنوب لبنان نحو مزيد من عدم الاستقرار، وأثبت مرّة أخرى أنّ النيات الحسنة وحدها لا تكفي لبناء السلام، خصوصاً عندما تكون المصالح الاستراتيجية للاعبين الكبار تصطدم مباشرةً مع أهدافهم المعلنة.