هل تذوب ودائع اللبنانيين في سندات طويلة الأجل؟

هل تذوب ودائع اللبنانيين في سندات طويلة الأجل؟

الكاتب: طوني بولس | المصدر: اندبندنت عربية
4 تشرين الأول 2025

تتسارع الضغوط الدولية على لبنان لوضع حد لأزمة الودائع المجمدة، بعدما تحولت إلى معيار لصدقية الدولة وقدرتها على الإصلاح. فالقضية لم تعد مسألة مالية بحتة، بل صارت مرتبطة مباشرة بمكافحة الفساد وتجفيف موارد اقتصاد الظل الذي يشكل قاعدة تمويل غير شرعية. فيما تواجه خطة الحكومة لمعالجة الفجوة المالية انقسامات سياسية ما يجعل مصيرها معلقاً بانتظار لحظة تسوية أكبر.

بعد ست سنوات على الانهيار المالي في لبنان الذي انفجر في خريف 2019، لا تزال قضية الودائع المجمدة في المصارف اللبنانية جرحاً مفتوحاً يرهق مئات آلاف العائلات. فالملف لم يُحسم بعد، بل ظل المودعون عالقين بين المصارف ومصرف لبنان والدولة، فيما يتقاذف المسؤولون كرة النار بلا حلول نهائية.

في لبنان، تبدو التسويات دائماً ناقصة، إذ يحرص تحالف السياسة والسلاح على إبقاء الأمور في المنطقة الرمادية التي تضمن استمرار مصالحه، وتؤجل كل استحقاق، سواء تحت ضغط الشارع أو تحت ضغط الخارج.

في المقابل فإن الضغط الدولي القائم على لبنان حالياً، لا يقتصر على مسألة سلاح “حزب الله” وحده، بل يشمل أيضاً الملفات المالية والإصلاح المنتظر، وهو ما يشمل حتماً أزمة الودائع. ومن هنا، يبدو أن المودعين يقفون على عتبة مرحلة جديدة: فملف مصرف لبنان بات تحت المجهر الدولي، وقد أنتجت الضغوط اتفاقات أولية بدأ المصرف المركزي بتنفيذها، بخاصة على صعيد مكافحة تبييض الأموال والحد من الفساد الذي استشرى لعقود.

توجيه رئاسي

الرئيس جوزاف عون كان وجه مراراً رسالة واضحة إلى الداخل والخارج مفادها بأن عهده لن يكون استمراراً لنهج المساومات الذي طبع المرحلة السابقة، وشدد في أكثر من مناسبة على أن مكافحة الفساد ليست خياراً تكميلياً، بل ركيزة أساسية لمسار الإصلاح، وأن إعادة هيكلة النظام المالي وضبط عملياته شرطٌ لا غنى عنه لتجفيف منابع الفساد وإغلاق أبواب الهدر التي استنزفت المال العام.

فيما يشير متابعون لهذا الملف إلى أن هناك تنسيقاً متكامل بين توجيهات الرئيس وسياسات مصرف لبنان واجراءاته الأخيرة والتي تصب في خانة الانتظام المصرفي ومكافحة الفساد.

حزمة إجراءات

اقتصادياً، يتوقف خبراء اقتصاديون عند خطوات اتخذها حاكم المركزي كريم سعيد دفعت بالاقتصاد اللبناني نحو مسار أكثر قوة.

فقد بدأ المصرف حواراً متجدداً مع صندوق النقد الدولي لتأمين الدعم المالي لجهود إعادة الإعمار، وأصدر التعميم رقم 170 الذي يحظر المعاملات المالية مع الكيانات غير الخاضعة للرقابة، وعلى رأسها مؤسسة “القرض الحسن”، التابعة لـ “حزب الله”. كما جرى توجيه استفسار رسمي إلى وزارة الداخلية اللبنانية للتحقيق في ظروف عمل مؤسسة مالية غير قانونية مرخصة بشكل مريب، وذلك في إطار المساءلة والشفافية. إلى جانب ذلك، أطلق المصرف المركزي ورشة إصلاح شاملة للقطاع المصرفي، بهدف إعادة تنشيط النظام واستعادة ثقة الجمهور بالمصارف التجارية.

وفي السياق نفسه، تأتي الاتفاقية مع شركة الاستشارات الدولية K2 ما يمثل خطوة محورية لرسم خارطة واضحة للاقتصاد النقدي اللبناني. فالهدف من هذه الاتفاقية هو تحديد مكامن الخلل البنيوي في النظام الاقتصادي، بما يشمل غياب التنظيم وانتشار الكيانات غير الشرعية التي ساهمت في ازدهار اقتصاد الظل.

استرجاع أموال المودعين

في الأسابيع الأخيرة، بدأت معالم خطة حكومة الرئيس نواف سلام لاسترجاع أموال المودعين تتضح تدريجياً، في وقت تؤكد مصادر متابعة أنه لن يكون هناك اقتطاع مباشر من الودائع. غير أنّ السؤال المركزي يبقى: إذا كانت الفجوة المالية تقدر بنحو 82 مليار دولار، فيما تتحدث الخطة عن خفضها إلى حدود 50 ملياراً فقط، فكيف سيتم سد هذه الفجوة من دون المساس فعلياً بأموال المودعين؟

النقاش، بحسب ما يُتداول، يرتكز إلى ثلاث نقاط محورية:

1 – الأموال المشبوهة: وهي الودائع غير الشرعية التي تخضع للتجميد والبحث حالياً، وتقدر قيمتها بين 8 و10 مليارات دولار.

2 – التحويلات بعد 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019: وهي الأموال التي جرى تحويلها من الليرة اللبنانية إلى الدولار الأميركي بعد اندلاع الأزمة وانهيار العملة الوطنية بشكل كبير، وتُعتبر من الملفات الكبرى نظراً إلى أنها تقدر ما بين 18 و20 مليار دولار، ما يستدعي وضع آلية خاصة لمعالجتها.

3 – الفوائد المرتفعة: وهي التي استفاد منها كبار المودعين وكبار الحسابات على نحو غير طبيعي، ما يفرض إعادة النظر بها وإقرار فوائد أكثر واقعية وعادلة.

وبحسب هذه المقاربة، فإن التعامل مع هذه الملفات الثلاثة من شأنه أن يُقلّص حجم الفجوة من 82 مليار دولار إلى نحو 50 مليار دولار، من دون اللجوء إلى اقتطاعات مباشرة تطال الودائع المشروعة.

تفاصيل الخطة الحكومية

يشير الصحافي المتخصص في الشؤون الاقتصادية عماد الشدياق، إلى أن صندوق النقد الدولي سيطلع على الخطة المالية التي تعدها الحكومة اللبنانية، وتحديداً قانون الفجوة المالية، الذي يُفترض أن يرسم آلية توزيع الخسائر بين الأطراف الثلاثة: الحكومة، المصارف، ومصرف لبنان.

وبحسب شدياق، يبرز في هذا الإطار اتجاهان متناقضان: الأول قريب من مقاربة صندوق النقد الدولي ويدعو إلى تحميل العبء الأكبر للمصارف، والثاني يعكس موقف المصارف والحاكم الجديد لمصرف لبنان كريم سعيد، الذي يشدد على أنّ الحل يجب أن يكون متوازناً عبر توزيع المسؤوليات بالتساوي بين جميع الأطراف.

ويتوقف عند تفاصيل ما يُطرح في الإعلام من خطط، مشيراً إلى أنّها تتضمن بنوداً حساسة، أبرزها:

شطب ودائع غير شرعية تعود إلى أنظمة سابقة، تتراوح قيمتها بين 2 و8 مليارات دولار، مع ترجيح رقم بحدود ملياري دولار.

اقتطاع مبالغ من الفوائد التي جرى تقاضيها في السنوات السابقة، بما يقارب 5 مليارات دولار.

تسديد ودائع المودعين الذين تقل ودائعهم عن 200 ألف دولار على دفعات شهرية تصل إلى 3300 دولار، وذلك لغاية سقف الـ 200 ألف.

أما بالنسبة إلى أصحاب الودائع التي تتجاوز هذا السقف، فإن الخطة تطرح خيارين أمامهم: إما تحويل جزء من ودائعهم إلى أسهم في المصارف، أو الحصول على سندات خزينة من نوع “زيرو كوبون” تستحق بعد ، عاماً بحيث يمكن للمالك المتاجرة بها أو الاحتفاظ بها إلى حين الاستحقاق.

ويكشف أن مصرف لبنان نفسه أعد خطتين، الأولى وُزعت على رئاسة الحكومة ورئاسة الجمهورية ووزارات المال والاقتصاد، والثانية بقيت قيد التداول داخل المجلس المركزي وتبدو أقرب إلى المنطق. فالثانية تنص على أن تتحمل الدولة اللبنانية جزءاً أساسياً من العبء، عبر دفع 21 مليار دولار من أصل الودائع، تتكفل الخزينة منها بما يقارب 7.5 مليارات، فيما يتم شطب أو إعادة هيكلة ما يقارب 63 مليار دولار عبر أدوات مالية طويلة الأجل.

وتنص البنود أيضاً على آليات دفع مختلفة، بين مودعين سيحصلون على 1200 دولار شهرياً لمدة ثلاث سنوات، وأخرون سيحصلون على 500 دولار شهرياً للفترة نفسها.

أما المودعين الذين لم يستفيدوا من أي تعميم ولديهم ودائع قبل الأزمة (2019)، سيحصلون على 3300 دولار شهرياً على مدى خمس سنوات، حتى سقف الـ 200 ألف دولار.

أما الودائع فوق هذا السقف، فستُعالَج عبر خيار الـ Bail-in أو سندات “زيرو كوبون”، كما أتى سابقاً.

إلى جانب ذلك، تتضمن الخطة خصماً تدريجياً على الشيكات المودعة في القطاع المصرفي بعد الأزمة: 65 في المئة على شيكات 2020، 70 في المئة على شيكات 2021، و75 في المئة على شيكات 2022، وكذلك الى 78 في المئة على شيكات العام 2023.

خلاصة هذه المقاربة، بحسب شدياق، أنّ إجمالي الودائع البالغ 83 مليار دولار ستتم معالجته على الشكل الآتي: 21 مليار دولار تُعاد تدريجاً للمودعين، فيما يجري شطب أو إعادة هيكلة 63 مليار دولار عبر شطب مباشر أو تقسيط طويل الأمد بسندات خزينة.

ومع ذلك، يحذر من أن كل هذه الطروحات قد تبقى حبراً على ورق، لأنّ لبنان على أبواب انتخابات نيابية، ولا يمكن لأي نائب أن يتحمل تبعات شطب ودائع عشية الاستحقاق. وهذا يعني أن أزمة الودائع مرشحة للتأجيل إلى عام 2026 على الأقل، أو إلى ما بعد الانتخابات، إلا إذا تم التوصل إلى تسوية عاجلة تسمح بتمرير القانون ولو على حساب الاستحقاق الانتخابي نفسه.

تحويلات مشبوهة

من ناحيتها، تلفت الصحافية المتخصصة في الشؤون الاقتصادية محاسن مرسل إلى أن النقاشات الجارية في اللجنة المكلفة بدرس قانون الفجوة المالية أو ما يُسمّى أيضاً قانون إعادة الانتظام المالي لا تزال تدور في إطار “العصف الفكري”، من دون أن تبلغ مرحلة الحسم. فالقانون الذي أعلنت الحكومة نيتها إقراره، يواجه عقبات جدية، أبرزها أنه يتناول موضوعاً شديد الحساسية: شطب أموال مودعين تحت عناوين متعددة، سواء أكانت ودائع غير مشروعة، أو فوائد مرتفعة حصل عليها بعض المودعين، أو عبر التمييز بين “ودائع مؤهلة” وأخرى “غير مؤهلة”.

هذا التوجه، برأي مرسل، ينطوي على مخاطر كبيرة لناحية إثارة البلبلة، بخاصة أنّ البلاد على أعتاب انتخابات نيابية، ومن الصعب أن يغامر مجلس النواب بالتصويت على قانون بهذا الحجم والتأثير في هذه المرحلة.

وتتوقف عند ما يُشاع في الإعلام من مقترحات، بعضها جرى نفيه من وزير المالية ياسين جابر، ومنها ما يتعلق بإعادة جدولة الودائع أو رهن الذهب وبيع جزء منه. وتوضح أن الدراسات المتصلة ببيع الذهب لم تكن ناجحة، على رغم أن الوزير يعدّ من أبرز المؤيدين لهذه الفكرة. وفي المقابل، تبرز إشكالية جديدة مرتبطة بدَين قيمته 16.5 مليار دولار، نشأ نتيجة تخفيض سعر صرف الدولار الرسمي من 1500 إلى 15,000 ليرة قبل انتهاء ولاية الحاكم السابق للمصرف المركزي رياض سلامة. هذا الدين، استناداً إلى قانون النقد والتسليف، أصبح في ذمة الدولة اللبنانية، بعدما تبين أن أموالها المودعة بالليرة اللبنانية في حساباتها لدى المصرف المركزي لم تعد كافية لتغطية احتياجاتها، ما جعل أي مبالغ إضافية يدفعها المركزي تتحوّل تلقائياً إلى دين على الدولة.

وتشير مرسل إلى أن ملف الدعم الذي فُتح في عامي 2020–2021 لا يزال عالقًا، والسؤال الأساسي هو: من سيتحمل كلفة هذا الدعم؟ فالمصرف المركزي يواجه اليوم فجوة ضخمة قُدرت بنحو 83 مليار دولار. في المقابل، لا تتجاوز قيمة موجوداته – بما فيها السيولة والذهب والأصول – حدود 50 ملياراً، ما يعني أنّ هناك فجوة بحدود 33 مليار دولار يجب شطبها لإعادة التوازن إلى ميزانيته. وهنا يبرز النقاش حول كيفية توزيع هذا الشطب: هل يكون عبر تحميله للودائع غير المشروعة، أم عبر اقتطاعات من الفوائد، أم عبر معالجة تحويلات الأموال بعد 2019 وما نتج عنها من فروقات في أسعار الصرف.

وتوضح أن السجال يتركز حالياً حول الودائع الصغيرة والمتوسطة. فهناك من يرى أنّ السقف الذي يمكن تغطيته يجب أن يبدأ من 100 ألف دولار وما دون، باعتبارها الشريحة الأوسع، فيما يذهب آخرون إلى طرح أرقام مختلفة، مثل رفع السقف إلى مليون دولار أو حتى أكثر. هذا الخلاف يعكس غياب توافق واضح حول آليات الحماية الاجتماعية للمودعين.

وتخلص إلى أن لبنان لا يزال يدور في حلقة مفرغة، من دون نتائج عملية ملموسة. وتضيف أنّه من غير المرجح أن يقبل صندوق النقد الدولي بمقاربات تتضمن تحويلات مشبوهة أو تلاعباً بأسعار الصرف، كما حصل حين حُوّلت بعض الودائع من الليرة إلى الدولار ثم أُعيد تحويلها لاحقًا، لأنّ هذه الممارسات تفتقد للشفافية. وترى مرسل أن الحكومة تسعى إلى مغازلة صندوق النقد الدولي وإظهار الاستعداد للتعاون، إدراكًا منها أن أي تسوية مع المجتمع الدولي لا يمكن أن تتم من دون موافقة الصندوق، لكن هذه المحاولة ما زالت حتى اللحظة تصطدم بواقع سياسي وانتخابي يجعل تمرير القانون أمرًا بالغ الصعوبة.