
العدالة الضائعة بين جدران الحضانات: هل تكفي القرارات القضائية لضبطها؟
شكّل توقيف السيدات الثلاث العاملات في حضانة “Rouge et Bleu” في بداية التحقيق رسالة ردع مهمة، مفادها أن لا أحد فوق المساءلة عندما يتعلق الأمر بحقوق الطفل، إلّا أنّ إخلاء السبيل يرسم علامات استفهام ويعطي انطباعاً بالتردد والريبة ويطرح سؤالاً ملحاً: هل ستبقى هذه القضية ضمن سياق المحاسبة، أم ستنضمّ إلى سلسلة الملفات التي بدأت بضجة وانتهت بنتائج خجولة؟
طرح إقفال حضانة “Rouge et Bleu” في الأشرفية، أسئلة كبيرة عن تجاوزات ترتكب بحقّ أطفال لا قدرة لهم للدفاع عن أنفسهم، ولا حتى إعلام أهلهم بالظلم الذي يلحق بهم يومياً بين جدرانها، في غياب الرقابة وأحياناً كثيرة المحاسبة، خصوصاً إذا ما كانت الارتكابات بحق الطفولة غير مرئية.
فبعد أيام على إقفال الحضانة المذكورة بانتظار جلاء ملابسات التعدّي على أطفال بداخلها، ورصد ذلك بالصوت والصورة بعد ضبط بضعة كاميرات بداخلها، أصدرت قاضي التحقيق في بيروت كريستال ملكي قراراً قضى بإخلاء سبيل الموقوفات الثلاث في هذه القضية بكفالة قدرها مئة مليون ليرة لكل منهن، بعد موافقة القاضي رجا جاموش، لكنّ قرار الإفراج عنهنّ فتح الباب مجدداً أمام نقاشٍ واسعٍ حول فعالية العدالة في حماية الأطفال، وما إذا كانت القرارات القضائية المتخذة تتناسب فعلاً مع حجم التجاوزات والانتهاكات التي تشهدها دور الحضانة في البلاد.
في الشكل، يأتي القرار ضمن الأطر القانونية الطبيعية، فإخلاء السبيل لا يعني إسقاط التهمة عن المدّعى عليهم أو تبرئتهم، بل يتيح لهم متابعة الإجراءات القضائية خارج التوقيف، وفق الضوابط القانونية المعمول بها. أما في المضمون، فإنّ هذه القضية تتجاوز حدود الخلاف الإداري أو الإهمال الوظيفي، لتلامس جوهر القيم الإنسانية والأخلاقية في التعامل مع أكثر الفئات هشاشة في المجتمع، أي الأطفال.
فالانتهاكات الموثقة داخل بعض الحضانات لم تكن مجرد تجاوزات مهنية، بل ممارسات تثير صدمةً كبرى لدى المجتمع، وتكشف هشاشة منظومة يفترض بها أن تحمي الطفولة من أي إساءة أو استغلال، لا أن تكون المرتكبة، وفي أحسن الظنّ الساكتة عن تعنيفهم وتعريضهم لخطر الموت.
شكّل توقيف السيدات الثلاث في بداية التحقيق رسالة ردع مهمة، مفادها أن لا أحد فوق المساءلة عندما يتعلق الأمر بحقوق الطفل. إلّا أنّ إخلاء السبيل، حتى وإن جاء وفق الأصول، يرسم علامات استفهام، ويعطي انطباعاً بالتردد والريبة، ويطرح سؤالاً ملحاً: هل ستبقى هذه القضية ضمن سياق المحاسبة، أم ستنضم إلى سلسلة الملفات التي بدأت بضجة وانتهت بنتائج خجولة؟
التوقيف بحد ذاته لا يشكّل ضمانة لاستمرار العدالة، بل يجب أن يترافق مع تحقيقات شفافة، وإحالة أمام القضاء المختص، ومتابعة رقابية من الجهات الرسمية، كي لا يتحوّل الملف إلى محطة عابرة في سجل الفضائح اللبنانية. سيما وأن تنامي الارتكابات في بعض الحضانات، يكشف عن وجود خلل بنيوي في منظومة الرقابة عليها، فالكثير منها يعمل في ظل غياب إشراف فعلي من وزارتي الصحة والشؤون الاجتماعية، أو ضمن بيئة قانونية تضمن اعتماد المعايير المهنية والأخلاقية للعاملين في هذا القطاع.
إنّ إصدار الرخصة لفتح حضانة هنا وأخرى هناك، بمواصفات كافية من الرفاهية والفخامة، لا يكفي لضمان سلامة الأطفال، ما لم تكن هناك زيارات تفتيش دورية، وتدريب إلزامي للعاملين، وآلية طوارئ للتبليغ عن أي انتهاك. فالردع لا يكون فقط بالإجراء القضائي العقابي بعد ارتكاب الجرم والاعتداء على أطفال رضّع، بل ببناء نظام حماية متكامل يبدأ بالوقاية قبل العقوبة.
للأسف، لا تزال القرارات القضائية المستندة إلى مواد قانونية، تتعامل مع قضايا الأطفال من زاوية الإيذاء الجسدي أو الإهمال، من دون أن تولي الاهتمام الكافي للأبعاد النفسية والمعنوية للضرر. في حين أنّ حماية الطفل في المفهوم الحديث تتجاوز العقاب، لتشمل التأهيل والدعم النفسي والتربوي، وضمان عدم تكرار الانتهاك في أي مؤسسة أخرى، من هنا، تبدو الحاجة ملحّة لإنشاء محاكم أو دوائر متخصصة في قضايا الطفولة، على غرار ما هو معمول به في دول متقدمة، كي يتمكن القضاة من مقاربة هذه الملفات بحسّ إنساني يوازن بين العدالة والرحمة.
هل تؤدي القرارات القضائية إلى إصلاح فعلي، أم أنها مجرد استجابة مؤقتة للرأي العام؟، الإجابة تتوقف على ما إذا كانت السلطات ستتعامل مع الملف كحادثة فردية أم كنقطة تحوّل في رسم سياسة وطنية لحماية أطفال ليسوا مجرّد ضحايا لحضاناتٍ، بل لثقافةٍ عامةٍ تتساهل مع الإهمال، وتغضّ النظر عن التجاوزات إلى أن تتحول إلى مأساة.
لا يمكن أن يكون مقياس العدالة بعدد التوقيفات أو الارتفاع قيمة الكفالات المالية لإخلاء سبيل الموقوفين، بل بقدرتها على منع تكرار الجريمة. لذلك، فإنّ خطوة القاضية ملكي، رغم مشروعيتها، يجب أن تكون بداية لمسارٍ أوسع من الإصلاح والمساءلة، لأنّ حماية الطفولة ليست خياراً قضائياً بل واجباً وطنياً وأخلاقياً لا يحتمل التأجيل.
ما حصل في حضانة الأشرفية المعروفة بشهرتها ورفاهيتها قبل الحادث الأخير، ليس التجاوز الأول ولن يكون الأخير، فهناك أمثلة وشواهد على حالات مماثلة، وللتذكير فإنّ الحالة الأصعب وكانت مشاهد التعنيف فيه أكثر إيلاماً لدى الرأي العام اللبناني، ما حصل في حضانة “Gardereve” في منطقة الجديدة، ويسجّل للقضاء سرعته في اتخاذ الإجراءات وإصدار الأحكام حيث قضت محكمة جنايات جبل لبنان على المدّعى عليهما “طوني. م” و”جومانة. س” بالسجن 3 سنوات، فيما حكم على المربية “دجيني. ح” بالسجن 4 سنوات، ورغم أنّ البعض يراها عقوبة قاسية، إلّا أنها بالمفهوم الجنائي تبقى متواضعة ومخففة أمام جريمة كان ممكناً أن تودي بحياة عدد من الأطفال لولا العناية الإلهية.