عامان في «الطوفان»: فلسفة الانتحار

عامان في «الطوفان»: فلسفة الانتحار

الكاتب: طوني عيسى | المصدر: الجمهورية
7 تشرين الأول 2025

منذ عملية «طوفان الأقصى» في 7 تشرين الأول 2023 و«حرب الإسناد» في الجنوب، مرّ عامان ثقيلان. وها هو الشرق الأوسط يقف أمام مشهد جيوسياسي غير مسبوق مأسوياً. فهل يستحق ذلك من أصحاب الشأن مراجعةً عميقة وصريحة للوقائع والتداعيات؟

مرعبة هي الفاتورة البشرية والجيوسياسية التي دفعها أهل غزة ولبنان، والمحور الحليف لإيران، خلال العامين الفائتين. ففي غزة، تحوّلت الحرب كارثة إنسانية لم يشهد التاريخ المعاصر مثيلاً لها. وفي لبنان، حرب الاستنزاف التي كان «حزب الله» يريدها محدودة، انتهت بانفجار عسكري هائل وخسائر بشرية مريعة في القيادات والكوادر، وبتدمير للبنية التحتية، وبتوقيع «الحزب» اتفاقاً ينص على التخلّص مما يعتبره جوهر وجوده، أي السلاح، وينتزع منه منطقة جنوب الليطاني.​والخسائر مستمرة يومياً في غزة ولبنان، سواء في الأرواح أو في القدرات اللوجستية والقيادية.

 

وتؤكّد التجربة أنّ الاستراتيجية التي اعتمدها حلفاء إيران فشلت في ردع إسرائيل، وحتى في استدراج إيران إلى تدخّل حقيقي قد يقلّص حجم الأوجاع التي تتكبّدها «حماس» و«الحزب». وكشفت الأحداث، منذ اللحظة الأولى لعملية «طوفان الأقصى»، عن تباين بين أطراف المحور. فقد فضّلت إيران وحلفاؤها في الشمال استراتيجية «الإسناد المحدود» وإشغال إسرائيل بدلاً من الانخراط القوي في حرب غزة، تجنّباً لنزاع إقليمي شامل خافوا أن يكلّفهم نفوذهم ووجودهم بكامله. لكن هذا «الحياد النسبي» جعل الفاتورة أكبر على الطرف الفلسطيني، من دون أن يحمي الأطراف الأخرى من الضربات القاصمة. وفي لبنان أيضاً، كانت الخسائر هائلة، ولم يجد «الحزب» داعماً له في الحرب. وهو اليوم يحاول الحفاظ على ما بقي له من قدرات، خصوصاً بعد انقطاع طريق الدعم عنه. وفي سوريا، زال نظام الأسد الذي كان حلقة اتصال لا بديل منها بين طهران وحلفائها. وفي اليمن بات الحوثيون محدودي القدرات. وأما إيران نفسها فترزح تحت ضغط غربي متنامٍ، بعد حرب الـ12 يوماً التي شنها الإسرائيليون والأميركيون عليها، وكلّفتها جزءاً من قدراتها العسكرية والنووية والاقتصادية.

 

​السؤال الذي يفرض نفسه بحدّة على طهران وحلفائها هو: هل كانت تلك التضحيات في محلها، وما الهدف السياسي أو العسكري الذي تحقق بنتيجتها؟ وهل كانت خطط الإسناد مناسِبة فعلاً لمواجهة إسرائيل والتحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، أم إنّها انتهت بالرضوخ لطروحات واشنطن وتصوراتها، من لبنان إلى سوريا فغزة؟

 

في الواقع، قاد المحور نفسه بنفسه إلى التحدّي الوجودي، وهو اليوم يواجه مأزق الاختيار بين مسارين:

 

​1- مسار «الجمود الانتحاري» الذي تجسّده حالة رفض «حزب الله» تسليم السلاح بكامله، حتى بعد توقيعه بند التسليم في اتفاق وقف النار. وكذلك في رفض «حماس» تسليم سلاحها. وهذا التمسّك يترجم عقيدة راسخة قوامها أنّ السلاح هو الضمان الوحيد للنفوذ والبقاء، وأنّ التراجع العسكري يعني النهاية. وهذا المسار الذي يدافع عنه أصحابه في غزة ولبنان بقوة، في ظل وقوف واشنطن إلى جانب إسرائيل، يبدو في نظر البعض أقرب إلى الانتحار.

فالتصلّب في هذه المرحلة، بعد كل هذه الخسائر وتدمير خطوط الإمداد بسقوط نظام الأسد، أصبح عبثياً، ويفتقد إلى الرؤية الاستراتيجية الضرورية للاستفادة من ورقة السلاح في عملية سياسية جديدة. إنّه مجرد رهان على مسألة تمّ اختبارها، وهي أنّ القوة العسكرية الإسرائيلية ـ الأميركية لن تتمكن من تحقيق الغلبة التامة. وهذا الرهان محفوف بمخاطر تدمير ما تبقّى من بنى اجتماعية واقتصادية وعسكرية، في لبنان كما في غزة. وربما يكون التوصيف الأكثر دقة: في لبنان بعد غزة.

​2- مسار «الواقعية القاسية». و​في الواقع يبدو أنّ حلفاء إيران العراقيين هم أول من انخرط فيه، مفضّلين تحييد أنفسهم وحماية مصالحهم الوطنية من لهيب حرب إقليمية واسعة لا أفق لها. وأما إيران نفسها فتمارس لعبة تتسمّ بالليونة والتصلب مداورة، في محاولتها الحفاظ على شعرة معاوية بين ماء الوجه والمصالح القومية العليا، أي تجنّب تلقّي ضربات جديدة في منشآتها النووية والعسكرية والاقتصادية.

 

الواقعية هنا تقتضي الاعتراف بالهزيمة الاستراتيجية لمشروع «وحدة الساحات» في شكله الراهن. فلا يمكن الاستمرار في نهج «كل شيء أو لا شيء» عندما تكون النتيجة معروفة وهي: «لا شيء» والتدمير شبه الكامل للمرتكزات المدنية والعسكرية. وهذا المسار يتطلّب من «حماس» و«حزب الله» الاقتناع بتجميد النزاع موقتاً وإعادة التموضع والتركيز على الاستثمار السياسي في ما تبقّى من نفوذ. فهذا أفضل من الاستمرار في القتال العبثي حتى النهاية، أي تحويل ما تبقّى من القدرات العسكرية ورقةً تفاوضية للحصول على تنازلات أفضل في مرحلة ما بعد الحرب، بدلاً من جعلها مجرّد هدف سهل لإسرائيل.

 

​العامان الماضيان كشفا هشاشة خطوط الإمداد والتنسيق بين أطراف المحور في وجه التهديدات. فسقوط نظام الأسد قطع «الجسر الذهبي» للإمداد المالي والعسكري من إيران إلى «حزب الله»، ما يزيد عليه الضغط للاعتماد على المخزون الذاتي أو القبول بالاتفاقات والقرارات الدولية التي تنص على نزع سلاحه. ويجد المحور الإيراني نفسه أمام امتحان حاسم: هل سيستفيد من درس الهزائم الكبرى، ويُعيد صوغ استراتيجيته للتحول من «محور عسكري» خالص إلى «قوة سياسية إقليمية» تستخدم نفوذها العسكري للحصول على مكاسب سياسية في مفاوضات إقليمية واسعة؟ أم سيختار الاستمرار في «المسار الانتحاري»، مراهناً على أنّ الصمود تحت القصف سيُعيد له ما فقده ذات يوم؟

​الضبابية في المشهد نابعة من التناقض حتى داخل المحور. ويبدو أنّه هو نفسه يعيش مخاض تبلور القرار بين جناحين: متساهل ومتصلّب، براغماتي وإيديولوجي، سياسي وعسكري. وحتى الآن، يبدو أنّ الميل العام في هذا المحور لا يزال نحو التصلّب ورفض الإذعان، والإمعان في «فلسفة الانتحار». لكن التكلفة تزداد، خصوصاً لدى الحلفاء. والأرجح أنّ الواقع القاسي سيدفع هؤلاء إلى مراجعة مؤلمة لجدوى استمرارهم في هذا النهج. ولكن، إلى أن يبلوروا هذا الاتجاه، الخسائر تتراكم، والوقت له ثمن.