
جنبلاط يخشى سقوط الخرائط
يعتمد وليد جنبلاط “مناورة البقاء” في زمن الانهيارات التي يخشى أن تكون الأقليات وقوداً لها. وما أكثر الأقليات في كيانات الشرق الأوسط المأزومة. لكن نجاح هذه المناورة في ظل التحديات والعواصف يبدو محفوفاً بالكثير من المخاطر
منذ أن أطلقت “حماس” عمليتها الغامضة في 7 تشرين الأول 2023، وفتحت الأبواب لتحولات استراتيجية عميقة على مستوى الشرق الأوسط، بدأ اللاعبون الكبار في الإقليم، يبحثون عن سبل للحفاظ على ما أمكن من نفوذهم. وأما الضعفاء، أي الأقليات العرقية والطائفية، ولا سيما الأكراد والعلويون والدروز والمسيحيون، فيحاولون حماية رؤوسهم من الطواحين. وقد شاءت تقسيمات سايكس- بيكو أن تتوزع الأقليات المشرقية خصوصاً على 6 كيانات هي: لبنان، سوريا، العراق، مصر، فلسطين، والأردن.
حتى الآن- أو إلى أن يُحسم الملف الفلسطيني ويتم تجاوز مخاطر الترانسفير في اتجاه مصر والأردن- يبدو الحديث عن مخاطر كيانية داهمة تعترض البلدين مؤجلاً ولو لفترة. ولكن في سوريا، يتحرك الملف الكردي بقوة هذه الأيام، وقد ينعكس على العراق أيضاً وربما تركيا. وطبعاً، يسود الغليان ملف الدروز في السويداء ويتمظهر دموياً في بعض الأحيان. وفي النظرة إلى مستقبل سوريا، وعلى رغم كل التطمينات الأميركية والدولية التي يتلقاها أحمد الشرع إلى أنه سيحكم سوريا كاملة، فالأمر لا يبدو يقينياً، في ظل تطورات تفرض نفسها في كل لحظة هناك، ومعها تزداد المخاوف من أنّ الكيانات التي عاشت 100 عام حتى الآن قد لا تتمكن من العبور سالمة إلى 100 عام تالية.
هذه الحقيقة يعرفها المدركون لخصوصيات الشرق الأوسط وانقلاباته، ومنهم وليد جنبلاط. ولذلك، هو اليوم يتحرك على وقع المخاطر الداهمة على الكيانات، أو هو، وفق توصيف البعض، يواكب “رقصة الوداع” للكيانات القديمة في الشرق الأوسط.
المثير للقلق في هذه المسألة هو أنّ التغيير الذي يجري الحديث عنه في الإقليم لا يبدو آتياً في هدوء، بل إنه سيتّخذ واقعياً أشكال الانهيارات والتفتت. وفي هذا المشهد الكابوسي، تصبح حماية الأقلية الدرزية واجباً وجودياً على جنبلاط، في المحورين: خطر تفكك سوريا وما يترتب عليه من مصير لدروز السويداء، وخطر تفكك لبنان تحت وطأة الفراغ والفشل في إدارة الصراع الذي سيفرض نفسه بدءاً من نافذة الجنوب، والذي لا يمكن لأحد أن يتكهن بما سيؤول إليه في المراحل المقبلة.
حراك جنبلاط ومشاوراته المتلاحقة مع القوى الداخلية، وكان آخرها مع الرئيس جوزاف عون، وزيارة أحمد الشرع في دمشق مرتين، في كانون الأول وأيار الفائتين، ليست سوى محاولات براغماتية لإدراك ما يجري، ومحاولة تجنيب الطائفة ثمن الانهيارات الجيوسياسية.
في محور السويداء، أراد جنبلاط من لقائه الأخير مع الشرع استباق الزمن الصعب. وهو يرى أنّ الوجود الدرزي هناك مهدد بخطر ثلاثي:
1- خطر الاقتتال السوري الداخلي: بعد انهيار سلطة النظام السابق، تحولت السويداء بؤرة اشتباكات داخلية وصدامات طائفية، قد تفتح الباب لتدخلات من جانب إسرائيل.
2- تعثر الاتفاقات: جنبلاط يدرك أن مساعي الشرع للسيطرة على الأرض وبناء “سوريا الجديدة” لا تزال هشة، خصوصاً في ظل تعثر اتفاق 10 آذار مع القوى الكردية وتزايد الفراغ الأمني جنوباً. وهذا التعثر ينذر بمزيد من الفوضى، ويجعل الدروز مكشوفين.
3- إغراءات الحماية الخارجية: يرى جنبلاط في الدعوات إلى الانفصال أو الحماية الدولية فخاً قد يجعل دروز السويداء لقمة سائغة في صراع النفوذ.
في الواقع، يجد جنبلاط مصلحة اضطرارية في مد يد العون إلى الشرع. فهو يمثل السلطة الوحيدة التي يمكنه مخاطبتها والاعتماد عليها لحماية دروز السويداء وعدم تحولهم ضحية حدودية.
وفي محور الجبل اللبناني، يخشى جنبلاط تفكك لبنان أيضاً بما لذلك من تداعيات على الجبل. وزيارته الأخيرة للرئيس عون هي ترجمة لرهانه على الدولة، والمؤسسة العسكرية خصوصاً، كملاذ وحيد لمنع لبنان من الانزلاق إلى الفوضى الكاملة.
لقد فشل لبنان في حل مشكلة الجنوب، حيث يدور صراع ملتهب على ترجمة اتفاق وقف النار. وبات سلاح “حزب الله” يهدد بالانفجار أكثر من أي يوم مضى. والمرحلة المقبلة ستشهد تصعيداً في الوضع على الأرجح، بدءاً من عودة مورغان أورتاغوس واستئناف لجنة المراقبة أعمالها في الناقورة، بعد أسبوع، ما يثير القلق من مناخ متفجر سياسياً وعسكرياً.
في هذا المشهد، يراهن جنبلاط على توافق أركان السلطة، وهو يريد رأساً للدولة يمكنه لجم الانهيار والتحكم بالقوى الأمنية، ويمثل نقيضاً للفراغ الذي يُشكل بيئة مثالية للتفكك. وفي الخلاصة، هو يعتمد “مناورة البقاء” في زمن الانهيارات التي يخشى أن تكون الأقليات وقوداً لها. وما أكثر الأقليات في كيانات الشرق الأوسط المأزومة. لكن نجاح هذه المناورة في ظل التحديات والعواصف، خصوصاً بعد دخول غزة والضفة الغربية مراحل حاسمة من تاريخهما، يبدو محفوفاً بالكثير من المخاطر. وهذا ما يفرض الاستنفار على الجميع، لعلهم يستطيعون تقليص حجم الخسائر إذا لم يتمكنوا من تجنبها بالكامل.