3 أشهر «تجريبية» خطرة

3 أشهر «تجريبية» خطرة

الكاتب: طوني عيسى | المصدر: الجمهورية
11 تشرين الأول 2025

ثمة مخادعة كبرى يشهدها الشرق الأوسط: الإسرائيليون يوحون بأنّهم مستعدون للسلام في لبنان وغزة وسوريا، فيما هم يريدون من الجميع الاستسلام التام. والإيرانيون يحاولون الإيحاء بأنّهم تقبّلوا الهزائم التي أصابتهم أينما كان، وتخلّوا عن طموحاتهم الفضفاضة في الإقليم، وأنّهم مستعدون للتأقلم مع موازين القوى الجديدة، لكنهم في الواقع يتحيّنون الفرصة للانقضاض مجدداً والتوسع.

الفرصة الجديدة التي يعتقد الإيرانيون أنّها قد تتاح لهم، لن تأتي من داخل الشرق الأوسط. فالتوازنات الجديدة التي فرضتها إسرائيل على إيران وحلفائها في العامين الأخيرين، لا يبدو متيسراً الخروج منها. وما يراهن عليه الإيرانيون فعلاً هو إصلاح الخلل في توازن المحاور الدولية ـ الإقليمية. وفي عبارة أخرى، هم يراهنون على عودة التماسك القوي بين روسيا والصين، أي «المحور الشرقي»، فيحتمون في ظله. ويمكن أن يتحقق ذلك بصمود فلاديمير بوتين وقدرته على مراضاة دونالد ترامب كي يضرب في قلب الحلف الأطلسي وأوروبا. وفي المقابل، تبدأ الصين في التوجّه نحو الشرق الأوسط، لا كلاعب اقتصادي فحسب، بل عسكري استراتيجي أيضاً.

الإشارة التي اعطتها طهران لحلفائها في لبنان وغزة واليمن وسواها هي الآتية: دعونا نكسب الوقت بضعة أشهر إضافية، لعلّ المتغيرات الإقليمية ـ الدولية الكبرى تتحقق، وتسمح بالعودة إلى موقع قوي. وهذا ما يفسّر قبول «حزب الله» بالمرحلة الأولى فقط من خطة تسليم السلاح، أي بجنوب الليطاني حصراً، مع تحديد مهلة لذلك هي نهاية العام الجاري. وأما في المرحلة التالية، فسيكون لكل حادث حديث. وهذا تماماً ما أدركته القوى الأخرى في لبنان، ووافقت عليه ضمناً، ومعها الدولة اللبنانية ككل. وحتى الأميركيون يبدون مقداراً من القبول بهذا الطرح، إذ إنّهم لم يعلنوا اعتراضات قوية على ما يجري. وعلى العكس، قدّموا إلى الجيش وقوى الأمن دفعة مساعدات جديدة بـ230 مليون دولار، ما يؤشر إلى أنّهم ليسوا غاضبين من الموقف اللبناني الرسمي، على الأقل ضمن حدود المرحلة الأولى.

وكذلك، الإسرائيليون ربما لا يزعجهم «تنظيف» جنوب الليطاني من السلاح، في غضون الأشهر الثلاثة المقبلة. فهذا مطلبهم الأساسي. ولكن، هم أيضاً يفكرون في تفاصيل المرحلة المقبلة في لبنان. وعلى الأرجح، هم يترصدون ما يجري في غزة اليوم، حيث يطرحون على «حماس» آليات شبيهة جداً بتلك التي وضعوها أمام «حزب الله». ففي الحالين، تسليم السلاح هو الشرط الأساسي. ومن دونه لا شيء يوقف الحرب.

طبعاً، «حماس» ترفض تماماً كما «الحزب» المسّ بالسلاح. وهذا يعني تلقائياً أنّ الحرب لن تتوقف في غزة، كما أنّها لم تتوقف يوماً في لبنان. ويبقى السؤال: هل ستنفجر هذه الحرب على مداها، هنا وهناك، أم ستجد إسرائيل مصلحة في إبقائها مظبوطة؟ أم أنّ الولايات المتحدة وإسرائيل ستجدان مصلحة في استئناف الحرب على إيران مباشرة؟

وفي أي حال، ستتجنّب طهران هذه المواجهة المباشرة الموجعة. وربما تستفيد من الحلفاء في لبنان وغزة واليمن ليتولوا مهمّة إشغال إسرائيل. لكن هذه اللعبة خطرة عليهم.

ففي الواقع، عاشت غزة مأساة ـ مهزلة في العامين الفائتين. ولا يستطيع عقل أن يستوعب ما فعلته «حماس» خلالهما. وما يجري هناك اختصره صديق باحث في الشأن الفلسطيني، فقال لي: «فلنتأمل بمنطق الرياضيات هذه المعادلة العبثية على مدى عامين. «حماس» احتجزت الأسرى وأشعلت الحرب، بهدف أن تعيد الأسرى مقابل وقف الحرب!». نعم هكذا وبكل بساطة. لكن هذه المعادلة التي تبدو ساذجة بلغة الرياضيات، كانت مكلفة إلى حدّ يصعب تصوّره إنسانياً وفلسطينياً:

67 ألف قتيل و150 ألف جريح ومعوق من المدنيين في غزة، وأكثر من مليون ونصف المليون مواطن نزحوا من أحيائهم التي بات معظمها عبارة عن تلال من الركام، ويعصف الجوع والمرض بمئات الآلاف من العجزة والنساء والأطفال، وأما التعليم الذي يفترض أن يكون الركيزة الحقيقية لبناء الجيل الجديد المقاوم، فقد غاب حتى إشعار آخر. وفوق ذلك، كانت غزة تحت سيطرة فلسطينية، ولو نسبية، وكانت في سلام ولو مزيف، وازدهار ولو شكلي، فإذا بها تصبح تماماً في الحضيض، تحت سيطرة إسرائيلية مباشرة، ورعاية لجنة دولية عربية.

والناس الذين ذاقوا المرارات وسط غبار كثيف من شعارات «أمجاد الانتصار»، نزلوا اليوم إلى الشوارع ليحتفلوا بكل جوارحهم. ربما هم يحتفلون بمجرد أنّهم مستمرون على قيد الحياة، ولا يعرفون إذا كان ما تحقق هو سلام تحديداً أم مجرد وقف موقّت للنار. فنتنياهو يقولها صراحة: «إذا لم تلتزم «حماس» تماماً بالاتفاق، وتتخلّى تماماً عن السلاح، فالحرب ستستمر».

وبذلك، تبدو غزة ولبنان في دائرة ترقّب واحدة، خلال الفترة المقبلة. وما من أحد يصدّق أنّ الذين وقّعوا الاتفاق هنا وهناك، من الجانبين، مقتنعون بأنّ الحرب انتهت فعلاً. وأولوية الجميع هي الحفاظ على النفوذ، أو الحفاظ على الرأس، في زمن التحولات الكبرى. وثمة من يعتقد أنّ إسرائيل ستتفرّغ مجدداً للبنان، بعدما استراحت نسبياً في غزة. ولكن من الممكن أيضاً أن ينفجر الوضع في غزة مجدداً، فيما وضع لبنان أساساً على كف عفريت.