هنيبعل القذافي… رهينة القضاء اللبناني أم ضحية الانتقام السياسي؟

هنيبعل القذافي… رهينة القضاء اللبناني أم ضحية الانتقام السياسي؟

الكاتب: طوني بولس | المصدر: اندبندنت عربية
12 تشرين الأول 2025

قضية هنيبعل القذافي ليست مجرد خلاف قانوني أو إرث سياسي من الماضي، بل اختبار لمستقبل العدالة في لبنان. إما أن يثبت لبنان أنه دولة قانون تعامل جميع الأشخاص بمساواة أمام القضاء، أو يرسخ صورته كبلد تدار فيه القضايا على قياس النفوذ والولاءات.

تعود قضية نجل الزعيم الليبي الراحل هنيبعل معمر القذافي إلى الواجهة من جديد، مع تصاعد الجدل حول استمرار توقيفه منذ ما يقارب 10 أعوام من دون محاكمة، في ملف يتداخل فيه القانون بالسياسة، والعدالة بالانتقام، حتى باتت القضية وصمة على جبين القضاء اللبناني، ومؤشراً خطراً إلى عمق الخلل في المنظومة القضائية التي يفترض أن تكون حارسة للعدالة لا أداة لتصفية الحسابات.

محاولات لإطلاق سراحه

في الأسابيع الأخيرة، تحرك الفريق القانوني اللبناني الموكل بمتابعة قضية القذافي بنشاط مكثف، في ظل مؤشرات إيجابية كانت توحي بقرب الإفراج عنه. فقد جرى التواصل مع وزير العدل وعدد من المراجع القضائية، بهدف التوصل إلى صيغة قانونية لإنهاء هذا التوقيف الطويل وغير المبرر.

ويؤكد هذا الفريق أنه يسعى إلى تحييد القضية عن التجاذبات السياسية والطائفية، وإعادتها إلى إطارها القانوني البحت، عبر تفكيكها من رواسبها القديمة التي تربطها بملف الإمام موسى الصدر.

وبحسب المعلومات المتوافرة، فإن هنيبعل القذافي في حال أخلي سبيله، يتطلع إلى مغادرة لبنان نهائياً نحو إحدى ثلاث دول، اثنتان منها عربيتان، على أن يختار إحداها أو يتنقل بينها وفقاً لاعتبارات أمنية خاصة. وهناك تفاؤل نسبي داخل الفريق القانوني بإمكانية التوصل إلى مخرج قريب، يعيد تصويب مسار العدالة بعد عقد من الاحتجاز.

فيلم هوليوودي

تبدأ القصة عام 2015 حين تم استدراج هنيبعل القذافي من دمشق إلى الأراضي اللبنانية عبر صحافية ادعت رغبتها بإجراء مقابلة إعلامية معه. لكن ما حصل كان عملية اختطاف منظمة قادها النائب السابق حسن يعقوب، نجل الشيخ محمد يعقوب الذي كان برفقة الإمام موسى الصدر خلال زيارته الأخيرة إلى ليبيا عام 1978.

وعلى رغم أن يعقوب أوقف لمدة ستة أشهر بسبب تورطه في العملية، فإن القذافي نفسه تحول من ضحية إلى موقوف ومتهم وشاهد في آن واحد، بعدما تسلمته السلطات اللبنانية، ليبدأ فصلاً جديداً من الاحتجاز لا يشبه أي سابقة قضائية في تاريخ لبنان الحديث.

عقد من التوقيف… بلا محاكمة

منذ أكثر من 10 أعوام، لا يزال هنيبعل القذافي قابعاً في السجن من دون محاكمة واضحة أو تهمة مثبتة. فالذريعة الوحيدة لاستمرار توقيفه هي أنه “يمتلك معلومات” عن قضية اختفاء الإمام موسى الصدر في ليبيا عام 1978، وحينها كان طفلاً في الثانية من عمره.

وعلى رغم هذا الواقع العبثي، يصر بعض القضاة والجهات السياسية المتنفذة على إبقائه موقوفاً، في انتهاك صارخ للقوانين اللبنانية والدولية.

القانون اللبناني نفسه يحدد أن جريمة “كتمان المعلومات”، حتى في حال ثبوتها، لا تتجاوز عقوبتها ثلاثة أعوام من الحبس كحد أقصى. بالتالي، فإن استمرار توقيفه خارج أي مسوغ قانوني يشكل اعتقالاً تعسفياً موصوفاً.

القضاء الملتبس

يتابع القاضي زاهر حمادة هذا الملف منذ أعوام، إذ يشغل موقعه القضائي كناظر في قضايا التوقيف والاعتقال، وهو المرجع المباشر الذي يملك صلاحية البت في استمرار توقيف القذافي أو الإفراج عنه.

لكن بحسب مصادر قانونية مواكبة، فإن دور القاضي حمادة تحول من مراقب قانوني إلى عنصر سياسي مؤثر في مسار القضية، نظراً إلى ارتباطه المرجعي بحركة أمل ورئيس مجلس النواب نبيه بري، مما جعل الملف عالقاً عند تقاطع السياسة والقضاء.

ويقول الفريق القانوني، إن تدخل القاضي حمادة في الأيام الماضية جاء في لحظة حساسة للغاية، إذ وبعد التوصل شبه النهائي إلى صيغة قانونية للإفراج عن القذافي، دخل فجأة على الخط وعين جلسة استجواب في 17 أكتوبر (تشرين الأول) الجاري.

وهنا برزت علامات الاستفهام الكبرى: ما الهدف من هذه الجلسة بعد 10 أعوام من التوقيف؟

هل هي محاولة لإدخال الملف في مسار قضائي جديد لتبرير استمرار احتجازه؟

أم تمهيد لفرض كفالة مالية ضخمة تتجاوز 10 ملايين دولار، تستخدم كعائق عملي يحول دون الإفراج عنه، خصوصاً أن المبلغ يجب أن يودع نقداً لدى القضاء اللبناني؟

الوفد القانوني يشير إلى أن القاضي حمادة كان بإمكانه استدعاء القذافي في أي وقت طوال الأعوام الماضية، لكن هذا لم يحصل سوى مرة واحدة قبل أعوام عدة، حيث استجوب بصورة محدودة أمام الضابطة العدلية فحسب، من دون أن تستكمل أي تحقيقات قضائية رسمية أو تعقد محاكمة حقيقية.

وهذا ما يعزز الشكوك بأن تحرك القاضي الآن ليس في إطار العدالة، بل في سياق سياسي هدفه تجميد أي محاولة للإفراج عن الموقوف.

بعد سياسي وإنساني

منذ البداية، كانت هذه القضية سياسية بامتياز. فحركة “أمل” تعد أن قضية الإمام الصدر مقدسة وتتجاوز القوانين الوضعية، وقد كرر الرئيس نبيه بري في أكثر من مناسبة أن “العدالة في هذه القضية فوق النصوص”.

لكن الواقع أن هذا الموقف، مهما كانت نياته، يضرب مبدأ العدالة في جوهره. فالقانون لا يطبق انتقائياً، والعدالة لا تختزل بشخص أو رمز.

الدولة التي تسمح باحتجاز إنسان لأن فئة سياسية تعده “ثمناً معنوياً” لقضيتها، تفقد أهلية وجودها كدولة قانون وتتحول عملياً إلى نظام بوليسي يتغطى بالرمزية الدينية والسياسية.

أما على المستوى الإنساني، فالقضية مأساة صامتة. فهنيبعل القذافي أمضى عقداً من عمره خلف القضبان من دون محاكمة، محروماً من عائلته، وممنوعاً من أبسط حقوقه القانونية. ومع مرور الأعوام، تحول من متهم مزعوم إلى رمز لمعاناة إنسان سقط في فجوة العدالة اللبنانية.

لبنان في مواجهة المجتمع الدولي

القضية لم تعد محصورة داخل لبنان. فالفريق القانوني تواصل بالفعل مع الأمم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان، وقدم شكاوى ووثائق حول ما يصفه بـ”الاحتجاز التعسفي طويل الأمد”.

وباتت مؤسسات أممية على اطلاع مباشر بالملف، وقد تباشر خطوات لمساءلة الدولة اللبنانية في حال استمر هذا الانتهاك.

هذه التطورات تأتي في لحظة يسعى فيها لبنان، برئاسة جوزاف عون وحكومة نواف سلام، إلى استعادة الثقة الدولية ومحاربة الفساد وإصلاح القضاء. لكن استمرار احتجاز القذافي بهذه الطريقة يقوض كل هذه الجهود ويظهر الدولة كأنها لا تزال أسيرة الصفقات والمحسوبيات.

اختبار للبنان الجديد

قضية هنيبعل القذافي ليست مجرد خلاف قانوني أو إرث سياسي من الماضي، بل هي اختبار لمستقبل العدالة في لبنان.

إما أن يثبت لبنان أنه دولة قانون تعامل جميع الأشخاص بمساواة أمام القضاء، أو يرسخ صورته كبلد تدار فيه القضايا على قياس النفوذ والولاءات.

العدالة الحقيقية لا تحتاج إلى 10 ملايين دولار ككفالة، بل إلى ضمير قاض واحد يجرؤ على تطبيق القانون.

وحتى ذلك الحين، سيبقى اسم هنيبعل القذافي مرآة تعكس حال القضاء اللبناني بين سلطة الحق وسلطة السياسة.