
من المقاتلين إلى المهندسين… إسرائيل تفتح جبهة جديدة مع “الحزب”
دخلت الاستهدافات الإسرائيلية الأخيرة على جنوب لبنان مشهدًا جديدًا في مسار التصعيد، إذ بدت إسرائيل وكأنها انتقلت من ضرب البنية العسكرية لـ”حزب الله” إلى استهداف المؤسسات المرتبطة به، في تحوّل نوعي يعكس استراتيجية جديدة في إدارة الصراع.
يوم الأحد الفائت، حلّقت مسيّرة إسرائيلية، فوق مدينة النبطية وقرى الجوار، مطلقة رسائل صوتية وتهديدات مباشرة للمهندس طارق مزرعاني، رئيس “تجمّع أبناء القرى الحدودية” وهو إطار مدني أُطلق قبل نحو ثلاثة أشهر للمطالبة بإعادة الإعمار. وقبل ذلك استهدفت إسرائيل سيارة على طريق الجرمق – الخردلي في جنوب لبنان، ما أدى إلى مقتل المهندسيْن أحمد سعد ومصطفى رزق. والمهندسان كانا في مهمة كشف للأضرار الناجمة عن الغارات السابقة لصالح شركة “معمار”، حين حصل الاستهداف.
هذه الحوادث لم تكن مجرد استهداف عابر، بل تحمل دلالات عميقة حول تبدّل أولويات إسرائيل الميدانية. فالغارات التي كانت تتركز سابقًا على قيادات عسكرية ومواقع تابعة لـ”حزب الله”، امتدّت اليوم لتطال كوادر مدنية وشركات هندسية يُشتبه بارتباطها بالبنية اللوجيستية لـ”الحزب”.
يعكس هذا التطور رغبة إسرائيل في ضرب كل مفصل يمكن أن يشكّل سندًا للبنية التحتية والاقتصادية لـ “الحزب”، وهو ما يُعدّ نقلة نوعية من المواجهة العسكرية المباشرة إلى حرب اقتصادية – مدنية تهدف إلى إنهاك بيئة الدعم الخلفية لـ”الحزب”.
في موازاة ذلك، تواصل الطائرات المسيّرة الإسرائيلية استعراض قوتها في الأجواء الجنوبية، في ما يبدو وكأنه حرب أعصاب مفتوحة. فقد ألقت إحدى المسيّرات قنبلة صوتية على بلدة كفركلا، وأخرى على بلدة مركبا الحدودية، في حين رُصدت مسيّرة ثالثة وهي تلقي قنابل صوتية في محيط بلدة مارون الراس، كما استهدفت جرافتين في أطراف البلدة ومحيط الحديقة العامة.
هذه “الرسائل الميدانية” ليست عبثية، بل تهدف إلى إبقاء الحدود الجنوبية تحت ضغط نفسي دائم، عبر المزج بين الغارات الفعلية والاستعراضات الصوتية المتكرّرة، في سياسة تهدف إلى إنهاك السكان وإرباك بيئة الحزب الاجتماعية.
“معمار” – “أرش”: من العقوبات إلى الاستهدافات
تُعدّ شركة “معمار” إحدى أبرز الشركات الهندسية التي تعمل بالتعاون مع “جهاد البناء” التابعة لـ “حزب الله” في عمليات الإعمار. وقد فرضت وزارة الخزانة الأميركية عام 2020 عقوبات على الشركة، متهمةً إياها بأنها “مملوكة أو موجّهة من حزب الله”، وأنها حصلت على عقود حكومية بمساعدة وزير الأشغال السابق يوسف فنيانوس، وحُوِّلت أرباحها إلى المجلس التنفيذي لـ “الحزب”.
كما أدرجت الخزانة الأميركية سلطان خليفة أسعد على قائمة العقوبات لعلاقته بـ “حزب الله”، وفرضت عقوبات على شركتَي “أرش” و”معمار” اللبنانيتين لارتباطهما بـ “الحزب” والمخابرات الإيرانية. يُذكر أن سلطان أسعد هو عضو في المجلس التنفيذي لـ “حزب الله”، وكان قد تولّى سابقًا منصب معاون رئيس المجلس التنفيذي لـ “الحزب” هاشم صفي الدين.
أما شركة “أرش”، المدرجة أيضًا على لائحة العقوبات الأميركية، فهي شركة هندسية للدراسات والاستشارات تأسست عام 2006، وتعمل في مجال الإشراف على المشاريع الهندسية والتصميم والرقابة الفنية للبنى التحتية والمباني والمناظر الطبيعية. وهي تُعدّ إحدى الجهات التي شكّلت مع “معمار” شبكة هندسية داعمة لمشاريع “الحزب” الإنشائية في المناطق الجنوبية والبقاعية.
هذا التحوّل في طبيعة الأهداف الإسرائيلية يعكس توجّهًا نحو توسيع نطاق الحرب لتشمل الحلقة المدنية المحيطة بـ “حزب الله”، وليس فقط الذراع العسكرية. فإسرائيل باتت تعتبر أن الحرب الشاملة مع “الحزب” لا يمكن أن تُحسم عبر استهداف المواقع العسكرية فحسب، بل عبر ضرب البيئة الحاضنة وشبكات الدعم المالي واللوجستي والإعماري التي تمكّنه من الصمود وإعادة البناء بسرعة.
وبذلك، تبدو إسرائيل كأنها انتقلت إلى مرحلة “تجفيف الموارد” عبر ضرب الشركات التي تلعب دورًا في إعادة إعمار ما تهدمه الغارات، في محاولة لتقويض قدرة “الحزب” على ترميم ما يُدمّر، وإيصال رسالة مزدوجة: لا حصانة لأي جهة، مهما كانت مدنية، إذا ما ارتبطت ببنية “الحزب” التنظيمية أو الاقتصادية.
استهداف المهندسين بالإضافة إلى الجرافات ليس حادثًا عرضيًا، بل إشارة إلى توسّع رقعة الاستهدافات التي تخوضها إسرائيل ضد “حزب الله”، هي حرب لم تعد تقتصر على الجبهات العسكرية، بل تمتدّ إلى الشركات والمشاريع وهي مرحلة جديدة من المواجهة، قد يكون عنوانها القادم: “الحرب على الإعمار”.