
بين علمين ونشيدين وولاءين… “أدركنا يا مهدي”!
أربعة وسبعون ألف طفلٍ يرفعون العلم اللبناني ثم الإيراني، يفتتحون تجمّعهم بالنشيد الوطني اللبناني ويختتمونه بالنشيد الولائي الفارسي “سلام فرمانده”. يُظهرون تارةً حبّ الوطن وتارة أخرى يُعلنون عشق المحتل، بحضورٍ “سيادي” لنواب – الميليشيا في البرلمان اللبناني، والمديرة العامة لوزارة الشباب والرياضة فاديا حلال، المُشرفة على أدلجة الأطفال مرتدي صور قائد مقتلتهم المباركة على قمصانهم الكشفيّة. لبننة هشة في إيرنة فجّة. انضباط عسكريّ في نشاطٍ مدنيّ. تجمّع تربويّ في تنظيم تعبويّ. جنودٌ بلا لحى ولحاء بلا جُند. هوية تائهة بين دولتين ورمزيّتين ومشروعين وهدفين ومصيرين. “سَمِك بلَبِنْ”.
لا يتعامل “حزب الله” مع الطفولة كمرحلة عابرة بعيدة عن السياسة. على العكس من ذلك، يراها أرضًا خصبة لتأسيس جيل كامل من الأطفال الشيعة العرب المفاخرين بتقديم الإخوة والأشقاء قربانًا للنهج الخميني، فيما يُقدم لهم “الاستشهاد” كقيمة حياتية.
احتفال بنهاية الفكرة
ما بدأ كمناهج تربوية موازية داخل مدارس المهدي وكشافتها، لم يعد مجرد خيارٍ تعليمي لحزبٍ ذي مرجعية دينية، بل تحوّل إلى نظام اجتماعي بديل يهدد ركائز الدولة اللبنانية ومرجعيتها القانونية، برعاية وزارية من وزارتي التربية والشباب والرياضة.
شبكة المدارس والكشافات التي أسّسها “حزب الله” بدعم مباشر من مؤسسات إيرانية مثل مركز الخميني الثقافي والمركز الاستشاري للدراسات والتوثيق، تجاوزت وظيفة التعليم إلى وظيفة إعادة تشكيل الوعي الجمعي للطفل الشيعي على أسس عقائدية تتنافى مع مبدأ المواطنة والمساواة أمام القانون. جيل نشأ على فكرة أن الولاء ليس للدولة اللبنانية بل لمشروع “صاحب الزمان” ونائبه بالحق الولي الفقيه.
يتعلم الأطفال في جمهورية الفزاعات، مسار الطاعة والولاء لإيران وأن سلوكهم يجب أن يخضع لـ “تكليف شرعي”. قواعد تهيّئ جيلًا بأكمله، نفسيًا وجسديًا، للالتحاق بجهاز عسكري أو تنظيمي، من دون أن يشكك بخياراته.
عادة، يُبعد الطفل عن السلاح ولو كان سكينًا أو “فرد مَيْ”!… أما هنا في أحد “اللبنانَيْن”، فيفتخر أهالي الطلاب بأطفالهم الولائيين ويشترون لهم الهاون البلاستيكي كلُعبة للتدرّب على نمط العسكرة الخارجة عن القانون منذ الصِغَر.
الأنشطة شبه العسكرية مفخرة وتقديم قادة “الحزب” كرموز مقدّسة أسلوب حياة. يتربى الطفل على مبادئ أساسية: الولاء لـ “الولي الفقيه” أولًا، تقديس السلاح كوسيلة وجود، وربط الهوية الشخصية بمشروع إقليمي أكبر من لبنان على ألّا يبلغ الطفل الخميني سن الرشد، إلا ويكون خياره حرًّا ووعيه السياسي مُعاد التشكيل على نحوٍ يعتبر أن القتال العقائدي واجب طبيعي، حتى لو تعارض مع الدولة أو السيادة اللبنانية.
خطورة لا تكمن في حرمانهم من طفولتهم الطبيعية فحسب، بل بتربيتهم ليكونوا جنود مشروع غير لبناني. هي ليست “تربية دينية – كشفية – مدنية بل أدلجة كاملة تخلق جيلًا لا يرى الدولة اللبنانية كمرجع، إنما يراها عائقًا يجب تجاوزه أو اختراقه بالحد الأدنى.
برعاية حارسات الموت المُقدّس
بالتوازي، ما نجح فيه “حزب الله” حقًا، إيمان الأمهات بضرورته. الأمهات اللواتي من المفترض أن يكُن الضمانة الأخيرة لبراءة أبنائهن، أصبحن سلسلة من حلقات التنظيم العقائدي، يحملن أطفالهن إلى عرضٍ تعبويّ لا يُكرّس خلاله طاعة فلذات أكبادهنّ فحسب بل طاعتهنّ الذاتية أولًا. رُوِّضت عاطفة الأمومة – العاطفة الأقوى في الوجود – وباتت وسيلة سياسية ضامنة.
القانون اللبناني نفسه، في مادته الثالثة من اتفاقية حقوق الطفل المصادق عليها عام 1991، يُلزم الدولة أن تكون “المصلحة الفضلى للطفل” هي المعيار الأعلى في أي سياسة عامة أو ممارسة اجتماعية. لكن غياب الإرادة التنفيذية وضعف أجهزة الرقابة، وتواطؤ قادة الوزارات الرسمية، جعلت النصوص القانونية ذات الروحية الطبيعية لوطن طبيعي، مجرّد حبر على ورق، فيما تُمارس أمام العلن عملية تطبيع للولاء العقائدي كمكوّن من مكونات الهوية المركزية لطائفة متخبّطة ومرتبكة تبحث عن شكلها الأجدد: “سلاطة”.
من الدفاع عن الإنسان إلى هندسة الإنسان
فجوة سقوط الهيبة نحو القاع كبيرة، وما الاستعراض الكشفي الذي رفع قسمًا هتلريًا إلا محاولة بائسة من “حزب الله” تسعى لإيهامنا “صهاينة الداخل” على حدّ تعبيره، أنه ما زال قادرًا على الحشد الشعبي ولو بالبراعم. حزب أفل نجمه ينتهك البراءة على مرأى من الدولة بل يمكن القول على مباركة منها وتصفيق.
هي المرة الأولى التي يبدو فيها “حزب الله” أضعف من لغته وأقوى من الاعتراف بالارتباك. سلاح بشري يجهره وبزّات موحّدة، فلا يخيف أحداً بل يُشعر الجميع بالحرج والتعاطف. تعاطف مع مشهد العاجز والتكتيك المكشوف، المحموم والملتبس في آن، إذ نرى تداخلًا بين التربية والعسكرة… المواطنة وعمالة المواطن الناشئ.
سياسيًا، يُعدّ ما شهده لبنان في مدينة كميل شمعون الرياضية في بيروت من كسر لرقم قياسي عالمي لتجمع كشفي عُدّ الأكبر في العالم لـ “أجيال السيّد”، في السنوية الـ 40 لتأسيس جمعية كشافة الإمام المهدي، استعراض نفوذ اجتماعي في لحظة خنوع ميداني لتعويض تراجع قدرات “حزب الله” القتالية. وفق الواقعيين، يظهر أن “حزب الله” انتقل من توازن الردع إلى توازن الصورة، ومن ساحة الحرب إلى ساحة الرأي العام الداخلي. والبنيويّون يرون في الحدث انعكاسًا لمأسسة الأيديولوجيا داخل البنية التربوية والاجتماعية، أي “تطييف الطفولة كمكوّن موازٍ” يُثبّت بنية الجيل الجديد صاحب المعركة اللاحقة المنتظرة لا الآنية.
ماذا يعني أن تضع حركةٌ سلاحها جانبًا وترفع الأطفال مكانه؟
بعد أن تآكلت “شرعية الفعل المقاوم”، لوحظ في سياق الأحداث عرض “حزب الله” عبر أطفال كشافته عنفه الترويضيّ، وهويته الهجينة التي تُشرعن الولاء للوليّ الفقيه تحت عباءة الوطنية اللبنانية، في ثنائية فردية تُنتج خللاً سياديًا طويل الأمد، تعيش ضمنها كتلة بشرية كاملة غير مندمجة في النظام الوطني بل مهيّأة – ذهنيًا وعاطفيًا – للانخراط في منظومة عسكرية متى استُدعيت لتطيع.
“حزب الله” الذي قدّم نفسه سيّد الميدان صار أسير صورته، وحين يحتاج السيّد الشهيد الأسمى المتربع على صورة تفترش عشب الملعب الرياضي إلى تصفيق القاصرين ليؤكّد سلطته، فهو قد دخل طور الاغتراب والمرحلة التي فقدت فيها الفكرةُ ثِقلها التاريخي وتحوّلت إلى طقسٍ شعائري يغتصب الطفولة.