
انتشار الجرائم المالية: نعتقد في لبنان أننا نخدع العالم
يتحضّر لبنان للمشاركة في اجتماعات الخريف التي ينظّمها صندوق النقد والبنك الدولي في واشنطن، وهو لم يقم بعد بما هو متوجّب عليه على صعيد حماية اقتصاده وتطويره وضبط اقتصاد الظل. وهي واجبات تتخطّى انعكاساتها النطاق المحلّي، خصوصاً في ما يتعلّق بالجرائم المالية، وعمليات تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، لتطال تداعياتها النطاق الدولي. ومن دون الحماية، يتحوّل لبنان تدريجاً إلى ممر يُسهِّل الجرائم المالية الدولية. وهذا الأمر يعيد تسليط الضوء على ضرورة إجراء الإصلاحات التي تأخّر إنجاز بعضها، وجرى تشويه ما أُقِرّ منها. وهذا ما انعكس تململاً لدى المجتمع الدولي، ما دفع أيضاً بعضَ مؤسسات القطاع الخاص إلى استعجال الجهات الرسمية لاتخاذ إجراءات إصلاحية تعزّز الاقتصاد الرسمي بدل اقتصاد الظل، الذي يترك تأثيراً سلبياً على استثمارات الشركات التي تلتزم القوانين وتتضرّر من العمل في بيئة تسيطر عليها الجرائم المالية التي تجذب العقوبات الدولية والتصنيفات السلبية.
الفساد يجذب الجرائم المالية
بات واضحاً أنّ الأزمات التي يغرق لبنان في تداعياتها منذ العام 2019، تتجمّع خيوطها في نقطة جوهرية، وهي الفساد الذي نظّمته وأدارته السلطة السياسية على مدى عقود، وجرَّت إليه جزءاً كبيراً من القطاع الخاص، وعلى رأسه القطاع المصرفي الذي بات شريكاً أساسياً في تسيير الفساد والاستفادة منه. لكن تراكمه أدى إلى انفجار الأزمة وإصابة كل من شارك فيها واستفاد منها. ولنفض غبار الأزمة وتفادي تداعياتها، باتت المصارف ناطقاً باسم مكافحة الجرائم المالية، لأنها أصبحت أكثر عرضة للعقوبات في حال تساهلها في تمرير أي جريمة أو التستّر عن الفاعلين.
وبين فساد السلطة وشراكة المصارف، ضاعت أموال المودعين، ليكون ضياعها شاهداً على أثر الفساد. وبرأي الشريك المؤسس والمدير العام لمجموعة KCG المتخصصة في الاستشارات المتعلّقة بالجرائم المالية، فؤاد خليفة، فإنّ “الودائع ضاعت لأسباب تتعلّق بالفساد والسرقة أكثر منها بأسباب تقنية مالية”. وبحسب ما قاله لـ”المدن”، فإنّ تمويل المصارف للدولة على سبيل المثال “ليس هو الأزمة بحدّ ذاته، وإنما عدم الاستفادة من الأموال. ولذلك علينا أن نسأل ماذا فعلنا بتلك الأموال؟”.
وكلام خليفة جاء على هامش قمة KCG لمكافحة الجرائم المالية 2025، بعنوان “بناء أنظمة مالية مرنة في ظل الاضطرابات العالمية”، والتي تناولت محاور “الفساد والأزمة المالية: دراسة حالة لبنان. العقوبات والمخاطر الجيوسياسية: ساحة معركة مالية جديدة. لبنان، مجموعة العمل الماليFATF وتحدي اللائحة الرمادية: دعوة إلى التحرك. الجرائم السيبرانية في عصر التكنولوجيا: التهديدات الناشئة والدفاعات الممكنة”.
أمّا تأخير إجراء الإصلاحات ووقف الفساد، فيؤدّي، في نظر خليفة، إلى “جعل النظام أكثر مناعة ضد التغيير، ويدفع الأجيال الجديدة إلى اعتياد الفساد بوصفه أمراً واقعاً. وبدلاً من البحث عن الإنتاجية والقيمة في الاقتصاد، تبحث الأجيال عن الوساطات للتوظيف والعمل”.
ولأنّ الفساد يجذب الجرائم المالية، يدرك القطاع المصرفي أهمية الخروج من دوامة الفساد والتركيز على مكافحة الجرائم المالية في ظل الاقتصاد النقدي الذي يسيطر على السوق. ولذلك، أوضح المدير العام لبنك سوريا ولبنان، غنطوس الجميِّل، أنّ “القطاع المصرفي يقوم بواجباته في هذا المجال. وبات الوعي أكبر على مستوى إدارات المصارف والموظفين حول أهمية الامتثال”. وأضاف في حديث إلى “المدن” أنّ المصارف “تستعمل أدوات الرقابة على التحويلات وعمليات نقل الأموال”. لكن يبقى الدور الأبرز في مجال المكافحة للدولة ،التي “لا زالت مقصّرة في قيامها بدورها في مكافحة اقتصاد الكاش على سبيل المثال، وهذا ما أوصلنا إلى اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي”. وهذا التقصير لا يعني انعدام الخطوات، فقد رحّب الجميِّل بقرار وزير العدل عادل نصار، الذي يطلب من كتّاب العدل التقيّد بإجراءات إضافية تشمل التحقق من هوية “مالك الحق الاقتصادي” ومصدر الأموال، ومراجعة لوائح العقوبات الوطنية والدولية عند إبرام معاملات البيع أو الإيجار. فاعتبر الجميّل أن كتّاب العدل “سيساهمون في الحدّ من الجرائم المالية”.
وفي إطار مكافحة الجرائم المالية، أكّد قائد وحدة الشرطة القضائية في قوى الأمن الداخلي زياد قائدبيه، الذي مثَّل وزير الداخلية والبلديات أحمد الحجّار، أنّ المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، عبر مكتب مكافحة الجرائم المالية وتبييض الأموال “تبذل جهوداً لتطوير أدائها وقدراتها بما يتماشى مع تطوّر الجريمة وأساليبها وأشكالها”. وأشار في كلمته خلال افتتاح أعمال القمة، إلى أنّه “مع إدراج لبنان على اللائحة الرمادية باشرت المديرية إجراءات تصحيحية، منها استحداث قطعات متخصصة بمكافحة الجرائم المالية وتبييض الأموال”. كما أنّ “شعبة الاتصال الدولي، الانتربول وفرع الانتربول في الشرطة القضائية، على تواصل مع الانتربول الدولي والعربي في ما يتعلق بالجرائم المعلوماتية وتبييض الأموال”. بالإضافة إلى ذلك “تمت زيادة عدد التحقيقات المالية وفعاليتها، وتم تعزيز التنسيق بين المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي ووحدة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان، وزيادة عدد قواعد البيانات المالية وتحقيق ربط إلكتروني مع جهات من القطاع الخاص”.
التعايش مع الأزمة
لا جدال في تشابك العلاقة بين الفساد في الدولة ومصالح المؤسسات في القطاع الخاص، إلاّ أنّ “القطاع الخاص أكثر مرونة من القطاع العام لناحية مراجعة أسباب ونتائج الأزمة. ولذلك سارع إلى التأقلم مع المتغيّرات الاقتصادية والأمنية، وبدأ بلفت النظر إلى ضرورة مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب”، على حد تعبير الخبير المالي والاقتصادي محمد فحيلي، الذي أشار في حديث إلى “المدن” إلى أنّ “مكوّنات الطبقة السياسية ما زالت تتقاعس عن إجراء الإصلاحات، وتتعايش مع الأزمة”. وهذا التعايش الذي يجرّ معه تعايش الناس، يشجّع “نمو اقتصاد الظل على حساب الاقتصاد الرسمي. وهذا ما يبيِّن زيادة النموّ من دون التنمية، ويلتمس ذلك عبر الضربات القاسية التي تتلقاها المدارس الرسمية والمستشفيات الحكومية”. ولتعزيز التعايش مع الأزمة، استمرّ العمل بالاستثناءات الضريبية والإعفاءات، وهي إجراءات “ولدت من رحم الفساد”. ولذلك “علينا البدء بتجميدها إن لم يكن هناك إمكانية فورية لوقفها، إلى حين إعادة النظر بها وتبيان جدواها”.
ولأن الفساد والتعايش معه أوديا بلبنان إلى اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي FATF، بات ضرورياً للبنان ” الخروج من الإيحاء باتّخاذ إجراءات إصلاحية تتماشى مع متطلّبات الخروج من اللائحة الرمادية، إلى حالات إجرائية اتخذت وأعطت نتيجة”، وفق الأستاذ المحاضر في قانون الضرائب والمالية العامة، المحامي كريم ضاهر.
وفي معرض إصرار المنظومة السياسية على الإنكار والاستمرار في التعايش مع الفساد، أشار ضاهر في مداخلته خلال قمة مجموعة KCG، إلى أنّ ما ينتظر لبنان “هو احتمال إدراجه على اللائحة الرمادية للدول غير المتعاونة، وهي المرحلة التي تسبق اللائحة السوداء”. وتصنيف لبنان “دولة غير متعاونة” سيؤدّي إلى “صعوبات في استيراد السلع، وصعوبات في إجراء التحويلات التي شكّلت أكثر من 40 بالمئة من الناتج المحلّي”، فضلاً عن أخطار أخرى “لا يزال اللبنانيون غير مدركين خطورتها”. واستغرب ضاهر أنّه “لا زلنا في لبنان نعتقد أننا نستطيع خداع العالم”.
مع اختلاف الإجراءات التي تقوم بها السلطة السياسية تحت ستار الإصلاحات، تبقى النتيجة سلبية، ما يحتّم تغيير منهجية العمل للحصول على نتائج إيجابية. لكن يبدو أنّ تلك السلطة تدرك ما تفعله وتعلم أنّه لا يلبّي شروط الخروج من الأزمة واستعادة الثقة. وهذا يعني الإصرار على غرق إضافي.