
بدأ القسم الأصعب
هنالك قول شائع يتردّد دائماً في اللغة اللبنانية العامية، مفاده: «راحت السكرة وإجت الفكرة». ومعناه أنّ وقت الإحتفال انتهى وحان وقت العمل الصعب. وهو ما ينطبق تماماً على واقع غزة، بعد الإحتفالية الرنانة التي كان نجمها الأول الرئيس الأميركي دونالد ترامب. فما بين تل أبيب وشرم الشيخ إحتفل ترامب، لا بل انتشى، بانتصاره الدولي الأول، وجاهر بقوة بأنّه حقق ما عجز عنه جميع أسلافه، بطي صفحة النزاع في الشرق الأوسط. ولا شك في أنّ «مبالغة» ترامب بتصوير ما حصل، هدفها التعويض عن الخيبات التي مُني بها على المسرح الدولي، وفي طليعتها حرب أوكرانيا.
وفي خطابه المسهب من على منبر الكنيست الإسرائيلي، كان لافتاً أن يعمد ترامب إلى تضمينه عدداً من اللمحات الدينية. فهو استشهد بصور توراتية وإيحاءات مسيحية. كما تحدث عن انتهاء الحرب الكبرى، أو الحرب بين المسلمين واليهود على مرّ التاريخ. وهو قال: «هذه ليست نهاية حرب، بل نهاية عصر من الرعب والموت، وبداية عصر الإيمان والأمل بالله».
وأفرد ترامب في كلمته مساحة لشكر الفريق الذي تولّى ملف غزة. وحاز موفده ستيف ويتكوف على الجزء الأكبر، وهو ما عكس الموقع الأول والكبير لويتكوف في الحلقة القريبة منه. وتلاه صهره جاريد كوشنر. أما وزير الخارجية ماركو روبيو فجاء في مرتبة متأخّرة. وبالتالي، فلقد ظهر في وضوح أنّ فريق ترامب المعني الفعلي بملف الشرق الأوسط هو الثنائي ويتكوف ـ كوشنر.
لكن المهمّ أنّ الجزء الأصعب من تطبيق مبادرة ترامب بدأ الآن. وترامب المقتنع بنظرية «السلام من خلال القوة» جدّد تمسّكه بها، عبر توجيه التحذير الصارم لحركة «حماس»، وملوّحاً باستخدام القوة مجدداً. وهو قال: «حماس ستنزع سلاحها، وهم أخبروني أنّهم سيفعلون ذلك. وإذا لم يحصل، فسننزع سلاحهم، وسيكون ذلك سريعاً وعنيفاً. وهم يعرفون أنني لا أمزح». وأتبع ترامب تحذيره ببيان عن القيادة الوسطى في الجيش الأميركي، أو الهراوة التي يمسّك بها البيت الأبيض، والذي جاء فيه أنّ هنالك فرصة للسلام وعلى «حماس» اغتنامها بالإلتزام بتنفيذ خطة ترامب وتسليم سلاحها بلا تأخير. وبذلك يكون بيان القيادة الوسطى بمثابة الإنذار قبل التحرك.
لكن المسألة ليست بهذه البساطة والسهولة. صحيح أنّ ترامب جدّي إلى آخر الحدود، لكن ثمة تفاصيل كثيرة وشديدة التعقيد لا تلحظها الخطة، ولا يمكن تجاوزها هكذا ببساطة. وهناك أمثلة تاريخية عدة على ذلك، كمثل سقوط صدام حسين في العراق، وقبله سقوط نظام حركة «طالبان» في أفغانستان. فعراق ما بعد صدام أصبح كابوساً وهو ما زال. وأفغانستان ما بعد «طالبان» أضحت مستنقعاً، قبل أن تنسحب القوات الأميركية وتعود إليها حركة «طالبان» مجدداً ولو بثوب جديد. ومن الأسئلة التي تُطرح الآن وبإلحاح في غزة: من سيتولّى دفع تكاليف إعادة إعمار غزة؟ وكيف سيحصل ذلك؟ومقابل أي ثمن؟ كذلك، كيف ستُحكم غزة، ووفق أي صيغة، ومن سيمسك فعلاً بدفة الحكم، وتحت أي مظلة إقليمية؟ وكيف سيجري ضبط الشارع الموجوع والجائع والمحطم، ووفق أي صيغة سيجري تأمين الإستقرار الداخلي ومكافحة الجريمة، خصوصاً مع ارتفاع مستوى الفقر نتيجة الحرب التي دمّرت ركائز الأقتصاد الضعيف أصلاً؟ ولكن السؤال الأهم يبقى: كيف ستتعاطى الحكومة الإسرائيلية مع المستجدات التي حصلت، وهي التي كانت تراهن على مشروع تهجير الفلسطينيين من غزة؟ وهل ستسهّل فعلاً حل الدولتين؟ كلها أسئلة لا تزال تفتقر إلى الأجوبة الواضحة والمفصّلة، ولو أنّ الإستعدادات بدأت لتشكيل القوة الدولية المفترض نشرها في غزة.
وقبل ذلك، حصل تحرّك مفاجئ وخاطف لحركة «حماس» في اتجاه استعادة إمساكها بالشارع الغزاوي، وهو ما أوحى بأنّ قدراتها الأمنية الداخلية لا تزال تعمل بحيوية، وبأنّ قيادتها التنظيمية ما زالت سليمة وقادرة على اتخاذ القرارات وتنفيذها. وعلى رغم من هذا الإنتشار السريع، والذي ترافق مع اعتقالات وتنفيذ إعدامات، لم تظهر إعتراضات أميركية أو حتى إسرائيلية جدّية وحازمة ضدّ هذا التحرك، على رغم من أنّه أتاح السيطرة الأمنية لحركة «حماس» على الأرض. وهذا ما طرح علامات استفهام عمّا إذا كان هنالك من صفقة ضمنية تمنح «حماس» دور ضبط الشارع الداخلي مقابل سيرها في خطة ترامب. وجاء تعليق ترامب نفسه ليزيد من علامات الإستفهام. فهو ألمح إلى أنّه منح حماس «الإذن» بإدارة الأمن الداخلي في غزة كما تراه مناسباً. إذ قال: «لقد تعاملوا مع بعض أفراد العصابات، وهذا لا يزعجني حقاً». لكن ترامب استطرد قائلاً إنّ هنالك تعهداً بنزع سلاح «حماس»، «وأنا لا أمزح». وما يظهر هنا يوحي وكأنّ هنالك ضوءاً أخضر لـ«حماس» بالسماح لها بالتخلّص من بعض خصومها، وفق مهلة زمنية محددة، قبل أن تُقدم على إنهاء حضورها العسكري. ففي هذا الوقت بدأت الإستعدادات العملية لتشكيل القوة الدولية المفترض نشرها في غزة، والتي ستباشر مهماتها بعد نحو أسبوعين. وستتكوّن هذه القوة من نحو 1000 عنصر، وستتولّى الإمساك بالأمن، إلى جانب الإشراف على آلاف العناصر الأمنية الفلسطينية، بعد أن تكمل تدريباتها في مصر والأردن، وتدخل بعدها تدريجاً إلى أزقة غزة المدمّرة.
لكن المشكلة الأكبر تبقى تلك المتعلقة بإعادة إعمار غزة. وقد لفت في هذا المجال ما قاله الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، من أنّه سيتمّ تقديم دعم مالي كبير وسريع لمشاريع إعادة الإعمار التي وضعتها منظمة التعاون الإسلامي وجامعة الدول العربية. وأضاف بشيء من الرضى: «نسعى للحصول على دعم من دول الخليج والولايات المتحدة ودول أوروبية. والإنطباعات الأولية مبشّرة». وبدا أردوغان مزهواً بعد قمة شرم الشيخ، للدور الجديد الذي ستتولاه تركيا. وبدا ذلك واضحاً عندما قال: «هذه الديبلوماسية التي أسسناها مع ترامب مهمّة جداً، وسنفعل ما يلزم لخلق أجواء الهدوء. وهنا يمكن الإستنتاج بمساحة النفوذ الجديدة التي كسبها أردوغان عبر غزة، بعد ورقة أساسية إلتقطها في سوريا مع وصول الشرع إلى السلطة وطرد تركيبة بشار الأسد. وفي غزة لا يقتصر طموح أردوغان على دور أمني وسياسي فحسب، بل على مكاسب إقتصادية ضخمة، ستتأتى من ورشة إعادة الإعمار.
لكن المسألة ليست بهذه البساطة. فدول الخليج العربي تغيّر أسلوبها مع إمساك الأمير محمد بن سلمان بالسلطة في السعودية. وبات الأسلوب المالي الخليجي الجديد يربط بين التمويل والمصالح المباشرة لدول الخليج. وهنا يبرز السؤال الأهم: هل ستضخ دول الخليج أموالاً في ورشة هائلة، لتستفيد منها شركات أميركية أو تركية أو مصرية، على رغم من الأهمية السياسية الفائقة لإعادة الحياة إلى غزة؟ لا تبدو الأمور بهذه السهولة. ولقد أوحى غياب قيادات خليجية عدة عن قمة شرم الشيخ، بأنّ الأمور أكثر تعقيداً مما يظهر، وأنّ بعض دول مجلس التعاون الخليجي قد لا تكون متحمسة لضخ الأموال، في غياب صورة واضحة حول الإفادة والنتائج والخطط الموضوعة للتنفيذ.
فالتقديرات حول حجم التمويل لمشاريع إعادة إعمار غزة بلغت أرقاماً فلكية، ووصلت إلى عدة مئات مليارات الدولارات. فيما قدّرت الأمم المتحدة، وفق تقريرها، بأنّ كلفة إعادة إعمار غزة تتطلّب حوالى 53 مليار دولار. أما التقديرات الأوروبية فأوردت رقم الـ 70 مليار دولار. وهذا التباين في التقديرات يوحي بانفتاح شهية الدول الكبيرة لإعادة تنشيط إقتصادها عبر «فرصة» استثمار إعادة بناء غزة. ولذلك تبدو دول الخليج «باردة» في تعاطيها مع هذا الملف.
المهّم أن لا يكون انعكاس كل ما جرى في غزة سلبياً على الواقع اللبناني. فعلى المستوى الأمني أولاً، لا تبدو التوقعات متفائلة، لا بل على العكس. فالتعويض الخطابي والمعنوي الذي حاول ترامب منحه لبنيامين نتنياهو لن يؤدي الى طمأنته والتخفيف من قلقه. وفي حين قرأ بعض المراقبين في كلمة زعيم المعارضة الإسرائيلية في احتفالية الكنيست، مهادنة لنتنياهو، فإنّ القراءة الحقيقية لها توحي بأنّها ما يشبه تقديم ورقة اعتماد لدى واشنطن لتعبيد طريقه أمام رئاسة الحكومة المقبلة. مع العلم أنّ عمر الحكومة الحالية الطبيعي بات نحو سنة، هذا إذا نجت من السقوط قبل هذا الموعد. وهذا ما يضاعف من قلق نتنياهو الذي يواجه ملف الفساد، وملفاً جديداً أكثر خطورة سيجري فتحه ما إن تتوقف الحرب كلياً، ويتعلق بالتحقيقات حول كارثة عملية السابع من أكتوبر. أضف إلى ذلك، الفشل الضمني لليمين الإسرائيلي في تحقيق «حلم» تهجير الفلسطينيين من أرضهم ونسف مشروع «الدولتين» إلى الأبد. وسيرمي هؤلاء اللوم على نتنياهو، تمهيداً للإقتصاص منه. ولا شك في أنّ نتنياهو يعيش تحت وطأة كل هذه الهواجس، أضف إلى ذلك، تلك العزلة الدولية الخانقة، والتي تُعتبر سابقة في تاريخ إسرائيل منذ نشوء كيانها. وجاءت واقعة رفض كثير من الدول حضوره لمؤتمر شرم الشيخ تحت التهديد بالإنسحاب، لتضاعف من منسوب قلق رئيس الحكومة الإسرائيلية. وهنا يصبح لبنان باب خلاصه، عبر رفع منسوب الحماوة والإستمرار في الحرب، وفق ما برّره قبيل وصول ترامب: «استمرار الحرب للقضاء على قوى لا تزال تعمل على إعادة بناء قدراتها العسكرية لتدمير إسرائيل»، وفق ما قاله. ومن الواضح أنّه يقصد بذلك «حزب الله». وحتى كلام ترامب نفسه من على منبر الكنيست، والذي أشاد فيه برئيس الجمهورية جوزاف عون ومبدياً دعمه له، فهو تحدث عن استكمال نزع سلاح «حزب الله». وهو ما يمكن اعتباره نقطة تقاطع بين ترامب ونتنياهو، ستسمح للأخير باستكمال حربه على الحزب.
لذلك، ربما سارع الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون للدعوة إلى مؤتمرين يتعلقان بلبنان. وعلى رغم من أزمته السياسية الداخلية الحادة، ألّا أنّها لم تمنعه من الإلتفات إلى لبنان. فعدا عن أنّ لبنان بات يُعتبر أحد آخر مواقع النفوذ الفرنسي تاريخياً في الشرق الأوسط، على رغم من تآكله بسبب الدخول الأميركي العريض، إلّا أنّ القلق من مغامرة حربية جديدة لنتنياهو المحاصر، دفعت ماكرون إلى تجديد تصميمه على تنظيم هذين المؤتمرين لدعم لبنان قبل نهاية السنة الجارية. لكن السؤال يبقى حول مدى تجاوب دول الخليج، وهم الجهة المانحة الكبرى كما هو مفترض. فهذه الدول تبدو متحمسة حتى الآن للمؤتمر الداعي إلى دعم الجيش اللبناني. لكن هذه الحماسة تتراجع كثيراً إزاء مؤتمر إعادة الإعمار. فمن جهة، فإنّ أثقال مؤتمر إعادة إعمار غزة تبدو كبيرة جداً وضاغطة، ومن جهة أخرى فإنّ هذه الدول لن تُقدم على أي خطوة في هذا الإتجاه، طالما أنّ ملف نزع سلاح «حزب الله» لم يحقق النتائج المطلوبة بعد، وهذا ما بات معروفاً وواضحاً لدى جميع الأطراف.
وكما أنّ اندلاع حرب غزة دفعت بلبنان إلى قلب البركان، وهي أدّت إلى نسف المعادلات الإقليمية التي كانت تظلله، فإنّ مبادرة ترامب التي أدّت إلى وقف الحرب، حتى الآن على الأقل، سترخي بنتائجها على مسار الأحداث، وقد تؤدي إلى خلق دينامية جديدة للدخول في مرحلة أخرى، وعلى أمل أن لا يحصل ذلك على نار حامية، وهو ما يتمناه نتنياهو ويسعى إليه.