التفاوض غير المباشر: هنا يتقاطع رئيس الجمهورية والحزب

التفاوض غير المباشر: هنا يتقاطع رئيس الجمهورية والحزب

الكاتب: ندى أندراوس | المصدر: المدن
20 تشرين الأول 2025

ليست المرة الأولى التي يُطرح فيها خيار التفاوض غير المباشر في لبنان، خصوصاً في الملفات السيادية الحساسة التي تتداخل فيها الحسابات الوطنية مع المعادلات الإقليمية. فقد شكّل إتفاق الترسيم البحري في العام 2022 محطة مفصلية في تاريخ المواجهة السياسية مع إسرائيل، بعد حراك دبلوماسي طويل أفضى إلى تثبيت الحقوق اللبنانية ضمن وساطة أميركية ضامنة، كان يُفترض أن تحصّن ما تحقق وتمنع أي خرق لاحق.
اليوم، ومع التحولات التي أفرزها إتفاق غزة، يرى رئيس الجمهورية جوزاف عون في المناخ الراهن فرصة واقعية لإيقاف الحروب وإحداث خرق في جدار الانسداد السياسي والعسكري، شرط أن يتوقف العدوان الإسرائيلي أولاً، حتى لا يبقى لبنان تحت مرمى النار، وأن تلتزم واشنطن بدورها كضامن فعلي لا كطرف منحاز، لتجنّب تكرار الالتفاف الذي حصل بعد إتفاق وقف الأعمال العدائية في 27 تشرين الثاني 2024.
هذا الطرح لقي تفهّماً من حزب الله، الذي لا يبتعد في قراءته عن مقاربة الرئيس عون، إذ يرى في أي تفاوض غير مباشر فرصة مشروطة يمكن أن تخدم مصلحة لبنان إذا التزمت إسرائيل وواشنطن بمقتضيات الاتفاقات السابقة.

إتفاق 2024 خط أحمر لا يُمسّ
يعتبر حزب الله أنّ أي تفاوض جديد يجب أن يبقى تحت سقف إتفاق 2024 الذي التزم به لبنان بالكامل، لأن تجاوزه يعني عملياً تبرئة إسرائيل من الاعتداءات التي تلت.
وفي هذا الإطار، يُفهم موقف الرئيس جوزاف عون حين يشدد، إستناداً إلى البند الثالث عشر من الاتفاق، على ضرورة إحترام تسلسل الأولويات: الانسحاب الإسرائيلي الكامل، إستعادة الأسرى، ووقف الاعتداءات والاغتيالات. فلا معنى لأي نقاش حول إتفاق جديد قبل تنفيذ ما سبق الاتفاق عليه.
صحيح أن تجربة التفاوض البحري ومن ثم الترسيم شكّلت نموذجاً يمكن الاستفادة منه في أي مسار تفاوضي مقبل، بحسب حزب الله، خاصة وأن “موقف الحزب ساهم في حينه في تعزيز الموقف اللبناني الرسمي وأجبر إسرائيل على التعاطي بجدية مع الوساطة الأميركية”. من هنا، يرى الحزب أن أي تفاوض جديد يمكن أن يُبنى على هذه التجربة، وأن يستند إلى معادلة القوة السياسية والعسكرية معاً، لا إلى المراوغة والضغوط الخارجية.

الديبلوماسية والمقاومة وجهان لمقاربة واحدة
إذا كان الهدف من طرح التفاوض غير المباشر ممارسة ضغط سياسي وديبلوماسي لتطبيق الاتفاق القائم، فإنّ ذلك ينسجم مع موقف حزب الله الذي لا يعارض تحريك القنوات السياسية لاستعادة الحقوق اللبنانية. فالحزب يرى في هذا المسار خياراً موازياً للمقاومة وليس بديلاً منها، ويمنح الديبلوماسية فرصة جديدة في ظل التبدلات الإقليمية المتسارعة، من إتفاق وقف الحرب في قطاع غزة إلى مشهد شرم الشيخ، التي قد تتيح إحداث خرق في الجمود الراهن وفرض تهدئة نسبية.
لكن حزب الله يرى في الوقت ذاته أنّ المؤشرات الميدانية لا توحي بتبدّل جذري في سلوك إسرائيل، التي تسعى إلى فرض “قواعد إشتباك جديدة” في لبنان وسوريا وغزة تتيح لها حرية الحركة من دون قيود، فيما تواصل الولايات المتحدة تغليب المصلحة الإسرائيلية على أي إعتبار آخر.
أكثر من ذلك، تتبدى في أوساط حزب الله شكوك متنامية إزاء ما “يسمى بالحياد الأميركي”، إذ بات واضحاً أن معظم المفاوضات التي تديرها واشنطن تُصاغ بما يخدم المصلحة الإسرائيلية أولاً، فيما تستفيد إسرائيل من الغطاء الأميركي لتوسيع هامش تحركها العسكري. هذا الواقع يثير تساؤلات جدية حول قدرة واشنطن على لعب دور “الضامن” لأي تفاوض مقبل، لا سيما مع حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية التي ترى في إبقاء المنطقة مشتعلة وسيلة لتأمين غطاء داخلي لحكمها.

بين الثبات والانفتاح على النقاش
في هذا السياق، يشدد حزب الله على أنّ موقفه واضح وثابت: السلاح هو ضرورة وطنية ما دام الاحتلال قائماً والاعتداءات مستمرة، وفي غياب الضمانات. هذا السلاح، الذي التزم وقف إطلاق النار وإمتنع عن الرد على الخروقات الإسرائيلية الأخيرة، ولم يتورط في حرب إسرائيل إيران، يمثل اليوم عنصر توازن وردع لا عامل تهديد.
في الوقت ذاته، يؤكد الحزب إنفتاحه على نقاش وطني في إطار إستراتيجية دفاعية شاملة، كما عبّر الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم الذي شدد على الاستعداد للوصول إلى نتائج إيجابية ضمن إطار وطني جامع. لكن ليس كيفما كان، أو في أي توقيت كان.
من هذه الناحية يقارب حزب الله التعاون بينه وبين الجيش اللبناني، مؤكداً على أنه مستمر، وقد تجلّت نتائجه في إجتماعات الميكانيزم التي سجلت تقدماً ملموساً في مناطق جنوب الليطاني. هذا التنسيق يُعدّ عاملاً أساسياً للحفاظ على أوراق القوة الوطنية وعدم إنسحاب تجربة المناطق العازلة التي تقيمها إسرائيل أكان في غزة أو في سوريا إلى لبنان، كما تحاول أن تفعل اليوم في ظل إستمرار الاحتلال. الأمر الذي يضعف الموقف اللبناني أكثر ويتيح لإسرائيل حرية الحركة بوجود إتفاق أو بعدمه، وبوجود ضمانات أميركية أو بعدمها. وبالنسبة إلى حزب الله، يشكل التعاون مع الجيش ورقة توازن مهمة على طاولة أي مفاوضات مستقبلية حول سلاح جنوب النهر، بحيث لا تُنزع عناصر الردع قبل الوصول إلى ضمانات حقيقية لوقف العدوان وإعادة الإعمار وعودة الأهالي إلى قراهم.

بين رهان الحزب ومخاوف التصعيد
من زاوية حزب الله، تمثل المرحلة الحالية لحظة إختبار مزدوجة بين خيار الانفتاح السياسي وخيار الصمود الميداني. فالحزب، الذي التزم التهدئة رغم الاعتداءات الاسرائيلية المتكررة، ينظر إلى التفاوض غير المباشر كمسار مكمّل للمقاومة لا بديلاً منها، يمكن أن يستخدم لتثبيت ما تحقق في إتفاق تشرين الثاني 2024 وحماية لبنان من محاولات التفاف إسرائيلية جديدة.
في المقابل، يدرك الحزب أنّ أي مسار تفاوضي لن ينجح ما لم يُرفق بوقف العدوان الإسرائيلي وضمان التزام الولايات المتحدة بدور الضامن الحقيقي، لا الشريك المنحاز. لذلك، يربط موقفه من أي مبادرة تفاوضية بمدى جدية الأطراف الراعية لها وقدرتها على فرض تطبيق الاتفاقات القائمة بدل القفز فوقها.
إنّ رهان حزب الله اليوم يقوم على موازنة دقيقة بين التهدئة الإقليمية والجهوزية الوطنية، بين الانفتاح على الحوار والتمسك بعناصر القوة. فالسلاح بالنسبة إليه ليس ورقة مساومة، بل ضمانة سيادية تحول دون تكرار تجارب التفريط بالحقوق الوطنية. ومن هنا، فإن مستقبل التفاوض غير المباشر لن يقاس بنيات الوسطاء بل بمدى قدرة لبنان، “بجيشه ومقاومته معاً”، على خوضه من موقع الندّية لا الحاجة، “حماية للاتفاق القائم وصوناً لمعادلة الردع التي أرساها إتفاق 2024 وتكريساً لحق لبنان في التوازن والاستقرار ضمن خريطة الإقليم المتحولة.”