
نتيجة ملتبسة… وقلق حقيقي في لبنان من يضمن صحة الصورة الشعاعية للثدي؟
مع حلول شهر تشرين الأول من كل عام، تتصدر حملات التوعية حول أهمية الكشف المبكر عن سرطان الثدي المشهد الصحي، داعية النساء إلى إجراء الصورة الشعاعية للثدي كوسيلة تنقذ الحياة. غير أن هذه الدعوات على أهميتها، تخفي جانبًا مقلقًا قليلًا ما يتم تسليط الضوء عليه وهو أن بعض الفحوصات التي تجرى في مراكز أو مستشفيات غير مؤهلة تفتح الباب أمام أخطاء تشخيصية خطيرة قد تحمل نتائج مضللة. من هنا يطرح السؤال الجوهري: ما قيمة حملات التوعية إذا كان الفحص يترك هامشًا للخطأ ولا يخضع لمعايير دقيقة؟
مع كل حملة توعية تسارع النساء لإجراء الصورة الشعاعية السنوية للثدي التي ينصح بها الأطباء كوسيلة لا غنى عنها للكشف المبكر عن سرطان الثدي. 30000 صورة شعاعية مجانية تضعها وزارة الصحة في خدمة النساء هذا العام في الكثير من المستشفيات الحكومية والخاصة والمستوصفات والمراكز الطبية. كما تساهم المستشفيات الخاصة في حملة التصوير الشعاعي. لكن هذا الجهد المشكور قد لا يؤدي الغرض المطلوب منه إن لم تتوفر في هذه المراكز المؤهلات البشرية والتقنية التي تقلص هامش الخطأ وتتيح إعطاء أدق الصور وأصدق النتائج .
في أذهان النساء الأولوية دومًا للصورة الشعاعية المتوجبة عليهن كدرعٍ أولى للوقاية، لكنهن غالبًا ما يغفلن عن معايير أساسية مثل نوعية الأجهزة المستخدمة ودقة التصوير الذي تؤمنه واحتمالية الخطأ الذي تحمله ونادرًا ما يفكرن بالتنبه جيدًا إلى تجهيزات المركز الذي يقوم بالتصوير الشعاعي والطبيب الذي يتولى قراءة نتيجة هذه الصور. إغفال قد يقود في بعض الأحيان إلى نتائج مغلوطة تطمئن مريضة مصابة بدل تحذيرها. وتتزايد المخاطر أثناء حملة التوعية حول ضرورة الكشف المبكر عن سرطان الثدي التي تقام في شهر تشرين الأول إذ يشتد الضغط على مراكز التصوير التي يتوجب عليها التعامل مع كمية أكبر من الصور ما يجعل هامش الخطأ أوسع.
الاطمئنان الكاذب
تتعدد القصص حول نساء خضعن للصورة الشعاعية للثدي وأطمأن بالهن إلى النتيجة السلبية ليتبين بعد أشهر قليلة أنهن مصابات بسرطان الثدي. يروي د. عاصم الحاج الاختصاصي في جراحة الثدي في ندوة أقامها مركز بخعازي الطبي للتوعية حول سرطان الثدي أن إحدى المريضات زارته بعد أربعة أشهر من خضوعها للفحوصات الدورية وهي تشكو من أعراض غير طبيعية في ثدييها ليتبين بعدها ونتيجة فحوصات جديدة أن لديها كتلة سرطانية في الثدي لم يتم التنبه إليها في الصورة السابقة.
وتخبر زينة وهي سيدة في الخامسة والأربعين من عمرها أنها خضعت للفحوصات الدورية ومن بينها الصورة الشعاعية للثدي ( mamographie) في مركز طبي صغير مختص بالتصوير في منطقتها القريبة من بيروت ولم تنبهها الطبيبة الاختصاصية التي قرأت النتيجة إلى وجود أي خطر وما هي إلا أشهر وأثناء رحلة إلى تركيا بدأت الإفرازات تسيل من صدرها شكت بأنها مصابة بالسرطان وعادت مسرعة إلى لبنان ليحسم شكها باليقين وحين واجهت طبيبة الأشعة بالأمر نفت وجود إشارات سابقة فيما أكد لها طبيبها المعالج أن الأمر ليس وليد ساعته…
وتروي سيدة أخرى أنها خضعت لصورة شعاعية للثدي وتصوير صوتي لمنطقة البطن في أحد المستشفيات الحكومية وقام طبيب الأشعة ذاته بتدوين التقرير الخاص بصورة الثدي وصورة البطن الصوتية وبدا متفاجئًا من نتائج الصورة السابقة التي حملتها معها وكونها موضوعة تحت تصنيف B Rad 3 الذي يعني وجود تغيرات طفيفة يُرجّح أن تكون حميدة لكنها تحتاج إلى مراقبة خلال 6 أشهر للتأكد من ثباتها، فيما هو لم يلاحظ وجود هذه التغيرات.
أجهزة قديمة وأطباء غير مختصين
أخطاء لا تغتفر تعرض حياة النساء للخطر فما السبب الكامن وراءها؟ بحسب أطباء الأشعة المختصين بتصوير الثدي يكمن الضعف في مكمنين الأول العامل الإنساني والثاني العامل التقني. فقد يكون طبيب الأشعة الذي يقرأ الصورة غير مزود بالخبرة الضرورية والطويلة التي تمكنه من رصد أية تغيرات وإن ضئيلة في أنسجة الثدي. وفي هذا الإطار تقول د. جنان نصار سلابا طبيبة الأشعة المتخصصة في تصوير الثدي والكشف المبكر عن سرطان الثدي في مستشفى جبل لبنان الجامعي: “من الأفضل أن يكون طبيب الأشعة مختصًا بتصوير الثدي لأنه بهذا يكون قد اختبر مئات أو آلاف الصور وباتت لديه خبرة أكبر ومن جهة ثانية يكون على اطلاع أعمق بطبيعة الثدي وأنسجته وهيكليته وما يجب أن يبحث عنه في الصورة بحيث يكون قادرًا على تمييز أدق التغييرات أو التشوهات والشك في أسباب حصولها” .
لكن للأسف في كثير من مراكز التصوير الشعاعي وفي المستشفيات الخاصة والحكومية يتولى طبيب الأشعة العام الكشف عن كل أنواع الصور ولا يكون مختصًا بالثدي أو الكشف المبكر عن السرطان وبهذا قد يغفل عن بعض التفاصيل الدقيقة الخاصة بالثدي أو عن التغيرات الحاصلة فيه لا سيما بالنسبة للثدي الذي يتميز بأنسجة كثيفة تصعب عملية اكتشاف الأورام والتغيرات داخله.
وقد يفتقد الطبيب إلى الخبرة الكافية في قراءة صورة الثدي الشعاعية لعدة أسباب اولًا لكونه مبتدئًا لم يتمرس بعد في تحليل الصور الشعاعية، أو لكونه يعمل في مركز صغير لم يؤمن له الخبرة الكافية، أو لكونه لم يتلق التدريب المهني الكفوء الذي يؤهله لقراءة صحيحة ودقيقة للصورة وأخيرًا قد لا يكون جهاز التصوير دقيقًا لدرجة يكشف فيها أدق التفاصيل فيقدم صورة غير واضحة قد يخطئ طبيب الأشعة في قراءتها.
وهذا ما يأخذنا إلى العامل التقني الذي يلعب الدور الأساسي في عملية التصوير الشعاعي للثدي. ففي لبنان وبسبب الأوضاع المالية والأمنية التي مر بها البلد على مدى السنوات الماضية لم يستطع العديد من المراكز الطبية تجديد أجهزته وتقنياته والانتقال إلى أخرى أكثر دقة وتطورًا ، أو كان غير قادر حتى على صيانة أجهزته القديمة ما جعل هذه المراكز غير قادرة على مجاراة القفزات التقنية الهائلة التي شهدها التصوير الشعاعي للثدي خلال السنوات الأخيرة كما جعل بعض العاملين فيها يفتقرون إلى التدريب اللازم على استخدام التكنولوجيا الحديثة.
الذكاء الاصطناعي في خدمة الصورة الشعاعية
لكن في مقابل هذا التباطؤ في مجاراة التطور لا بد من الاعتراف أن لبنان وفي العديد من مستشفياته خطا خطوات جبارة إلى الأمام لا سيما في مجال استخدام الذكاء الاصطناعي في مجال التصوير الشعاعي للثدي الذي يتيح إدخال كمية هائلة من الداتا إلى الكمبيوتر وحفظ ملايين الصور مع تشخيصها ليعمل الكمبيوتر من بعدها على فرز هذه المعلومات وإجراء الحسابات والمقارنات ليتمكن البرنامج المختص من إعطاء احتمالات دقيقة إذا ما كانت الصورة سرطانية أو حميدة وفق ما تشرح د. سلابا. كما أنه يزيد من دقة التشخيص حيث يمكن للبرنامج رؤية درنة أو تكلسات أصغر من أن تستطيع عين الإنسان تمييزها ويساعد بذلك على الكشف المبكر عن السرطان ويسرع عملية التشخيص ويخفف من احتمالات إعادة التصوير بسبب وجود شكوك. كذلك يساعد الذكاء الاصطناعي في تقدير احتمالية الإصابة بسرطان الثدي عند السيدة حين يفحص كثافة الغدة بعد القيام بالحسابات اللازمة. وفي حال بينت الحسابات احتمالية الإصابة ولو بنسب ضئيلة يمكن الطلب إلى السيدة المعرضة لخطر الإصابة إجراء فحوصات أخرى لرصد أي خطرمحتمل بوجود سرطان.
ومن أبرز تطورات التصوير الشعاعي للثدي التصوير الثلاثي الأبعاد Tomosynthese الذي يتيح تشريح طبقات الثدي والوصول إلى التكتلات المختبئة في الأنسجة السميكة وحتى كشف أصغر التغييرات التي قد لا تتعدى ميليمترًا واحدًا وتوحي بأنها قد تتحول في ما بعد إلى كتل سرطانية مع استخدام تقنية Computer added detection ( CAD) التي تضيء على التشوهات حتى البسيطة منها ليتم التركيز أكثر على هذه المناطق فلا يتم إغفال أي عامل خطر وهذا ما يجنب السيدة الخضوع لعملية تصوير أخرى بعد فترة قصيرة وفق ما تشرح د.هبة سمراني الاختصاصية في التصوير الشعاعي للثدي في مركز بلفو الطبي. .
لكن رغم أهمية هذه التقنيات المتطورة ودقتها يبقى ثمة عائق أساسي أمام استخدامها إذ إن كلفة الصورة بجهاز ثلاثي الأبعاد مثلًا تتخطى أحيانًا 150 $ وهو مبلغ لا يمكن لكل السيدات دفعه، كما إن هذه التقنيات ليست متوافرة بعد إلا في بعض المستشفيات الكبرى ما يجعل الوصول إليها غير متوافر بالنسبة للكثيرات فيما لا تزال الأطراف تعاني من نقص في أجهزة التصوير الحديثة.
حلول تجنب الأخطاء
للتقليص من الأخطاء الحاصلة والحد منها سوف تقوم اللجنة الوطنية للسرطان هذه السنة وبالتعاون مع أطباء مختصين من مستشفيات أوتيل ديو والجامعة الأميركية ومراكز التصوير الكبرى المعروفة بعملية إعادة قراءة لعينات عشوائية من الصور الشعاعية تبلغ نسبتها 20 % من مجموع الصور التي أجريت للثدي هذا العام في كل لبنان، في المدن كما في الأطراف، للتأكد من نسبة الأخطاء فيها وفق ما يؤكد د. فادي الكرك العضو في اللجنة. وفي حال ظهور أخطاء في مكان ما تبادر اللجنة إلى الطلب من الطبيب أو الأطباء المعنيين تقديم كل ما عندهم من صور لإعادة قراءتها. وتؤمن طريقة اختيار نماذج عشوائية الكشف عن الثغرات بغية المساهمة في تحسين نوعية الفحوصات.
من جهته يعتبر د. جورج شاهين الاختصاصي في علاج الأورام أنه بدل أن تكون مراكز التصوير الشعاعي منتشرة بشكل عشوائي غير منظم وغير مراقب بشكل فعلي لا سيما خلال الحملات، من الأفضل أن يتم إنشاء مركز متطور بأجهزته ومعداته في كل محافظة يتيح للنساء الحصول على أدق النتائج .
في النهاية تبقى الرسالة الأهم: لا تستهري بصحتك، استثمري في نفسك وكوني واعية …