
بعد إعادة ترميم مقابرهم… من يرمّم علاقة مسيحيّي رياق مع شيعتها؟
في 15 تشرين الأول من العام 2024، استيقظ أهالي بلدة رياق في قضاء زحلة على خبر اقشعرت له الأبدان. غارة اسرائيلية استهدفت مبنى سكنيًا ذُكر أنه “فخخ” بسلاح “المقاومة”، فنبش عصفه قبور مسيحييها المجاورة له. أيقظ هول الحادثة هواجس المآسي المتتالية التي خلّفت ندوبها العميقة في البلدة، ودفعت إلى هجرة أو نزوح تدريجي منها، بحثًا عن الأمن والأمان. فوجد تحديدًا مسيحيو رياق أنفسهم مرة أخرى، بمواجهة الخيارات المؤلمة. فهل يركبون موجة النزوح كي لا يدفعوا ثمن “مغامرات” أو “ردات فعل” لا ذنب لهم فيها؟ أم يصمدوا كما فعل كثيرون أيضًا في السنوات الماضية، ويعيدوا ترميم ما تهدم جراءها؟
صمد أهالي رياق هذه المرة، وقرروا عدم التخلي. فإذا بهم قبل أيام، يحيون الذكرى الأولى للتعدي على حرمة أمواتهم، في مقابر انبعثت منها الحياة “لتعود أجمل مما كانت”. أما ركام المبنى المستهدف مباشرة بالغارة، فبقي خلف سور مقابرهم، شاهدًا وحيدًا على ما جرى. وكأن هذه الصورة مقصودة لتعكس “الحواجز النفسية” التي تسببت الحرب الأخيرة برفعها بين أبناء البلدة الواحدة.
لم ينتظر أهالي رياق توقف الاعتداءات الإسرائيلية أو أي تعويض. بل بدأت ورشة إعادة تأهيل مقابرهم في صباح اليوم التالي مباشرة، كما يقول المختار جيلبيرت شمالي لـ “نداء الوطن”، فكان ذلك فعل إيمان أراد إيصال رسالة صارخة “بأننا أبناء قيامة وحياة” و”ثابتون في أرضنا”. فهل دخلت رياق فعلًا زمن قيامتها؟ وماذا عن علاقة أبناء البلدة التي صدّعها تفخيخ الأحياء السكنية، فمن سيرممها؟
“ما عادوا يشبهونا”
لم تعد رياق منذ سنوات طويلة تشبه نفسها. فالبلدة التي نمت وازدهرت مع شبكة مواصلاتها “المتفوقة”، منذ عهد المتصرفية، واستقطبت أفرادًا وعائلات من مختلف أنحاء لبنان ودول العالم، ضاقت على مسيحييها خلال احتلال نظام بشار الأسد للبنان، وتحويله رياق مركزًا عسكريًا أساسيًا له.
فقد مسيحيو رياق في هذه الفترة راحتهم في العيش فيها. فكان أن ملأت الفراغ مباشرة عائلات شيعية، لم يشكل وجودها لسنوات أي نفور. فالبلدة الواقعة على سكة القطار التي ربطت بيروت بالعالم العربي منذ بدايات القرن الماضي، معتادة على التنوع الذي احتضنته بسببها. إلا أن ما سمم هذا التنوع في البلدة، كان تسلل الاصطفاف السياسي العمودي بصبغة طائفية، فارضًا إيديولوجيات دخيلة على مجتمعها، ولو غير الملتزم. فكانت تلك بداية مرحلة التحوّل الديموغرافي التدريجي في رياق.
هكذا إذًا بعدما بقيت هوية رياق الطائفية ضائعة وسط “الفدراليات” التي ولدتها الطوائف في مختلف المناطق خلال عقود من الحروب اللبنانية، انقسمت البلدة الواحدة اليوم بين “هم” و”نحن”، لتسقط معها القيم والمفاهيم الاجتماعية التي كانت تجمع أهل البلدة على مصلحتها أولًا، وصارت تسمع في البلدة تكرارًا عبارة “ما بيشبهونا”.
عيّروهم أحرجوهم فأخرجوهم
الأسوأ أن مسيحيي رياق عُيّروا بعددهم وتواجدهم اللذين تراجعا في السنوات الماضية. في حين أن هذا التراجع لم يكن يومًا منفصلًا عن الظروف الأمنية التي ولدتها الأحداث، لتجعل من رياق مدينة لا تفتقد فقط الأمن والأمان، وإنما أيضًا فرص العمل والحياة، والأهم تفتقد لوجود الدولة.
ومع ذلك جرى مؤخرًا اقتلاع التمثيل المسيحي من مجلس بلدية رياق الذي كان يترأسه عرفًا مسيحيًا. فتشكّل المجلس البلدي الأخير ناقصًا، ومن لون واحد، وصار اليوم أمرًا واقعًا. فكان أن فجّر ذلك القلوب المليانة.
لم يبتلع مسيحو رياق، ولا عائلاتها الشيعية غير الملتزمة بـ”حزب الله” الهيمنة التي مورست على العملية الانتخابية. وفيما عبّر المعترضون الشيعة عن ذلك بسحب ترشيحاتهم، سلك المتضررون طريق الطعن القانوني بها من خلال مجلس شورى الدولة.
إلا أن ذلك لم يولّد قناعة كافية بأن استعادة البلدة لصيغتها التعايشية ممكنة بمخرج قضائي. فهذه المسألة كما يقول الياس المعلوف، وهو أحد ناشطي رياق الذين ترشحوا لانتخاباتها البلدية في شهر أيار الماضي، إنه سعيًا لصيغة توافقية تؤمن مجلس بلدي متناغم وعادل بتمثيله، قد تحتاج إلى مؤتمر تأسيسي يعيد تعريف العلاقة بين مكوناتها، أو حتى إلى مصارحة داخلية تعيد ترسيخ منطق الشراكة الذي تميزت به رياق حتى بعز الاحتلال السوري للبلدة.
كمال عقيص: قوتنا بحضورنا
رغم تراكم ما يسميه أهل البلدة بـ”الاضطهاد”، يرى المعلوف، “أن ذلك لا بد من جعلنا أقوى”. فما الذي يجعل أهالي رياق يتعلقون ببلدتهم مع أنها لم تعد تشبههم أو تشبه نفسها مؤخرًا.
تحدثنا إلى كمال عقيص، وهو واحد ممن لم يتخلوا لا عن الأرض ولا الحضور في بلدته. عندما يتحدث عن جذور عائلته في رياق، يبدأ عقيص بالإشارة إلى بيت جده الذي رمم للمرة الأولى في العام 1900، ليجزم بأن تاريخ رياق، أو تاريخ المسيحيين فيها لا يمكن أن يختزل، لا بمرحلة النهضة، ولا بمرحلة انهيارها. بل بكل ذكرى عاشها أهل رياق مع بعضهم البعض، وجعلتهم يختزنون من النوستالجيا ما يغني حياة بأكملها.
ومن هذه النوستالجيا يختار عقيص ما يصنف رياق منذ خمسينات القرن الماضي مدينة خضراء بالمفاهيم الاجتماعية، الاقتصادية وليس فقط البيئية. ففيها كما يقول”عشنا طفولة، وبداية فتوة لم يكن يحلم بها حتى أطفال أوروبا”. إذ أنها كانت تجمع كل شيء، من بيئة مريحة للسكن، عمل دائم سواء في سكك الحديد أو المطار، مدارس ومؤسسات تربوية ومراكز ثقافية رفيعة المستوى، أمنت نشاطات رياضية واجتماعية موازية لمستوى تعليمي راق، وقطاع سياحي مزدهر. فكانت رياق البلدة الوحيدة في البقاع باستثناء زحلة التي تمنح مكانًا مريحًا للسكن وللعمل والترفيه في مساحة واحدة. وربما يكون ذلك ما جعل الكثيرين يتملكون فيها البيوت، ويحرصون على الحفاظ عليها، أملًا بيوم تستعيد خلاله رياق وهج ماضيها.
ثلاثية “التران” “المطار” و”مدرسة الآباء البيض”
ثلاثة أسس رفعت رياق إلى مرتبة المدن الخضراء قبل أفول نجمها وهي، أولًا: سكة الحديد، محطة القطار والمشغل المجاور لها. ثانيًا: مطار رياق، الذي تحول لاحقًا مطارًا عسكريًا لا يزال يلعب دوره في رياق. وثالثًا: مدرسة الآباء البيض.
يحتل السكون حاليًا حرم محطة رياق والمشغل الملاصق لها. ويبدو المكان مستسلمًا للطبيعة التي اجتاحته وتركت فيه آثارها. وبينما أحاط الجيش اللبناني مطار رياق بحصانته التي ساهمت في الحفاظ على دوره، ولو العسكري، في البلدة، لحق الإهمال بمعظم مباني مدرسة الآباء البيض الملاصقة، والتي ما زالت شاهدة على مرحلة تحوّلها أكبر تجمع عسكري للجيش السوري في لبنان حتى العام 2005.
لم تكن مدرسة الآباء البيض في رياق مجرد صرح تعليمي، وإنما “أسلوب حياة”، وربما نموذجًا اقتصاديًا واجتماعيًا مكتفيًا ذاتيًا عكس رسالة كنسيّة شاملة، لا تقتصر على التلقين، بل على بناء الانسان، الفرد والجماعة. فيشير عقيص إلى ما كان يضمه التجمع الذي نشأت فيه، من صالات للنشاطات، وملعب لكرة القدم ومسبح شكلت مساحات ترفيهية لأطفال البلدة وفتيانها الذين نعموا أيضًا بمساحاتهم الخضراء الخاصة في نواحي كثيرة من البلدة. ومن هنا يقول “تركت تجربة طفولتنا في رياق ذكريات جميلة. نبحث عن مثلها اليوم لأولادنا”.
شكّلت مدرسة الآباء البيض تجمّعًا ثقافيًا متكاملًا نشأ في تركة الانتداب الفرنسي، على أطلال ثكنة عسكرية فرنسية، ارتفعت مبانيها على مراحل، بدءًا من العام 1910 وحتى العام 1936. فكان هناك مستشفى، وربما يكون الأقدم في البقاع، مبنى للسجن، وآخر للمطابخ والموائد، وغرفًا للنشاطات وفرنًا لا تزال تجهيزاته موجودة حتى الآن وبئرين لا تزالان صالحتين للاستخدام، بالإضافة إلى أقسام مخصصة للاستحمام، وساحات خارجية بعضها كان يوفر اكتفاءً ذاتيًا من إنتاج الخضار واللحوم وغيرها.
ويشرح الأب الياس إبراهيم مدير المدرسة الحالي، أنه عندما حل في التجمع الآباء البيض، استغلوا جميع هذه المساحات في تنويع النشاط التربوي والاجتماعي. لينشؤوا أيضًا كنيسة بيزنطية هي الأولى التي حملت اسم القديسة حنة، بالإضافة الى كنيسة لاتينية أخرى.
تسلم الآباء البيض المدرسة من الانتداب الفرنسي بموجب مرسوم صدر في العام 1947 وبدأوا تحويلها إلى مدرسة قبل ذلك بسنتين تقريبًا. حينها كانت تستقبل فقط تلاميذ طائفة الروم الكاثوليك، في نظام أمّن التعليم والإيواء الداخلي. إلا أنه منذ ستينات القرن الماضي صارت المدرسة تستقبل الطلاب من جميع الطوائف، وكانت تدرس إلى جانب العربية، اللغات الفرنسية، اليونانية، اللاتينية والإنكليزية، وهذا ما جعل من تلامذة الآباء البيض الأكثر تنورًا في المنطقة بحيث لم يكن هؤلاء يحتاجون إلى أي امتحان دخول إذا قرروا الانتقال إلى مدارس أخرى.
تركة وقعت بأيدي حاقدين
نعمت رياق بهذه التركة لنحو ثلاثة عقود بعد الاستقلال، قبل أن يحتل جيش نظام بشار الأسد كل شيء في البلدة، ويفرغ في معالمها كل حقده وجهله. وقد تجلّت مظاهر هذا الحقد بوضوح، سواء في محطة القطار أو في مدرسة الآباء البيض.
في العام 1975 دخلت مدرسة الآباء البيض في مرحلة ظلام. وعلى رغم استمرار التدريس في واحد من مبانيها، هجرها قسم كبير من طلابها. ومع أن العسكر الذي احتل المكان حافظ على هيكلية المباني، فقد ألحق بها ضررًا بنيويًا، وجرّدها من ممتلكاتها، مثلما فعل بأجزاء كبيرة من سكة الحديد وحرم محطة القطار والمشغل الملاصق له. فلم تعد لا “محطة التران وسكتها” ولا مباني المدرسة تصلح للاستخدام قبل إعادة تأهيلها.
يتذكر الأب ابراهيم كيف وضع الجيش السوري الحواجز بين المدرسة ومراكزه العسكرية، بعدما أنشأ مقرًا لأكبر تجمع عسكري له فيها. فكانت الآليات تمر أمام الطلاب ويجري التدقيق بشكل دائم بهوياتهم وهويات ذويهم والأساتذة. وهذا ما تسبب بضيق معنوي فاق الضرر المادي. فانخفض عدد الطلاب في المدرسة خلال هذه الفترة الى أدنى المستويات. إلى أن غادر الجيش السوري في العام 2005.
جامعة القديسة حنة؟
انتقلت ملكية المدرسة إلى البطريركية الكاثوليكية بعد خروج سوريا من لبنان بحق الشفعة. خصوصًا أن الآباء البيض سلموا إدارتها للبطريركية قبل مغادرتهم رياق في العام 1965. فدفعت البطريركية بمقابل هذه الملكية مبلغ مليون ونصف المليون دولار وفقًا لما يذكره الأب ابراهيم.
ولكن هذا التملك لم يمح الأثر الذي خلفه الاحتلال. وهو لا يزال ينتظر التمويل اللازم، والذي يأمل الأب إبراهيم توفره للانطلاق بمشروع مجمع جامعي، تقرّر إنشاؤه بمرسوم بطريركي صدر في العام 2024 وأعدت دراساته اللازمة، وسيجعل من جامعة القديسة حنة الجامعة الكاثوليكية الأولى في لبنان.
جيل يعيش نوستالجيا سابقة
بالعودة إلى الأحداث التي خلفت تداعياتها في رياق، يروي كمال عقيص أن أكثر ما آلم أهالي رياق كان افتقاد الدولة حتى قبل دخول الجيش السوري إلى البلدة. ولذلك يقول “لم نعد نشعر بالأمان. وبدأنا نشهد تحركات عسكرية لا نعرفها. تعرفنا لأول مرة على منظمات تحت أسماء غريبة لم نكن نعرف بوجودها، فابتلينا بها، وعائلتنا تحديدًا ابتليت جراءها بخسارة أربعة من شبابها. وهذا كان فاصلًا دفع كثيرين إلى مغادرة رياق”.
يتنقل عقيص بين هذه الذكريات، من دون أن يفقد الأمل باستعادة بلدته نورها السابق. فالأمل موجود برأيه، وتحقيقه يرتبط أولًا بمبادرة أهل رياق أنفسهم، وبقدرة الجيل الذي عايش رياق “الحلوة” على نقل النوستالجيا إلى من لم يعايشوها، وهذا ما يحاول أن يفعله مع ابنته، التي يقول إنها تمضي حاليًا أجمل أيامها في رياق، وتستضيف أصدقاءها دائمًا في حديقة منزلهم الجاهز لاستقبال الضيوف في أي وقت، ولديها الحماسة لتخبرهم عن كل شيء في رياق، ومؤخرًا عن سينما “الريفولي” التي ساهم عقيص مع عائلة والدته باستعادة وهجها في رياق مؤخرًا.
“الريفولي” تقاوم
في 15 آب الماضي، خرج النور مجددًا من صالة سينما “الريفولي” في رياق. وهي واحدة من ست صالات كانت قد نشأت في البلدة منذ ستينات القرن الماضي، وشكّلت محور حركة ترفيهية حلم الأهالي، ومن بينهم عائلة شبابي بأن تكون ” واحة لقاء ومساحة فرح ومنبر تنمية”. ولكن يد الحقد التي بلغت رياق هدمت كل شيء “البشر والحجر والحلم” وفقًا لما قاله الياس شبابي، في كلمته التي ألقاها بالمناسبة.
فجعت رياق في شهر آذار من العام 1976، بمجزرة ارتكبت بحق عائلة شبابي التي فقدت أربعة من أفرادها. وهذا ما دفع بكثير من أبنائها إلى مغادرة البلدة. فكان كما قال شبابي “أن تبعثرنا كما أوراق الخريف بمهب الريح، وغادر الكثيرون رياق، ولم تكن هجرتهم اختيارًا، بل نجاة موقتة من واقع موجع”. وهذا ربما ما جعل من إعادة افتتاح “الريفولي” رسالة مقاوِمة، لا بالسلاح، بل بالكلمة، بالصوت، بالرقصة، باللحن، والمسرح، ولكن أهم شيء بالمحبة” كما قال شبابي.
هل يمكن للسمكة أن تسبح بعكس التيار؟
مثل عائلات رياق الراسخة بجذورها، قاوم الياس المعلوف أيضًا من خلال سيره بعكس موجة الهجرة التي شهدتها بلدته طيلة السنوات الماضية. فمن الإكوادور التي هاجرت إليها عائلته، لم يعش من طفولته برياق سوى بضعة أعوام، وسكن جبيل لأكثر من 15 عامًا، قبل أن يعود مع زوجته إلى رياق، ويؤسسا فيها عائلتهما الصغيرة منذ العام 2005.
تخلى المعلوف في هذه الرحلة عن مسارات شهرة ونجاح حققها خارج رياق. واكتشف أن راحته الوحيدة هي في كنف عائلته ومع ذكرى جده في بلدته رياق. فاستعان بحرفية الجد في صناعة العرق والنبيذ، لينشئ خمارة ثبتها بأرض عائلته، في أصعب ظرف داخلي وخارجي يمر على بلدته منذ سنوات.
يشكل البقاء في رياق بالنسبة لمعلوف فعل مقاومة وصمود، ولكن من دون المساومة على مبدأ مواجهة الانهيار بالصراحة. ولذلك هو يصر على تعرية كل حقيقة تسيء إلى علاقة المسيحي في رياق مع المسلم، من دون أن يعني ذلك أنه مستعد للتفريط بجاره، أيًا كانت طائفته. ولهذا يقول “الشيعي في رياق هو جاري وصديقي. ولذلك يؤلمني جدًا عندما أرى صور الشهداء المعلقة على العواميد، لأن بين هؤلاء من لعبت معهم في طفولتي أو كنت ابتاع منهم حاجاتي”.
لا يرى المعلوف في الطائفة ذاتها تهديدًا، بل بالفكر الإلغائي الموجود لدى البعض. ولذلك هو يرفض التعويل على تبدل الأحوال الإقليمية للانتقام من شريكه أو التشفي منه. فيقول “لا أريد أن ألغي أحدًا ولا أن يلغيني أحد. بل أريد أن نعيش معًا”. مشددًا على أن كل محاولات الإلغاء السابقة حطمت لنا لبنان الذي نريده.
يشبّه المعلوف نفسه بالسمكة التي لا تعيش خارج المياه. وعليه، لا يشكك أبدًا بخيار بقائه في رياق. ولكنه في لحظة ضعف إنسانية يستعين بإشارة من عند الله، فهل كان قراره صائبًا؟
يروي المعلوف “أنه عندما نبشت الغارة الإسرائيلية مقبرة رياق، طلبت هذه الإشارة، حتى لا أخطئ بحق أولادي. لم أكن لأحتمل أي ضرر يلحق بمقبرة جدي. ولكن الإشارة جاءتني بأن قبر جدي وعائلتي بقي سالمًا، على رغم كل الدمار الذي لحق بمحيطه”.
مع أن المعلوف يملك خيار نقل عمله إلى الخارج، فهو يعتبر أن ما يملكه هنا لا يُشترى. ولذلك يسأل إذا غادرت رياق هل يمكنني أيضًا ان أنقل مقبرة جدي؟ أو أن أصطحب أفراد عائلتي الأحياء أو أصدقاء أولادي؟
كنائسنا شاهدة على وجودنا
ولكنه بعيدًا عن الرومانسية، ومن دون أن يتنازل عن طموحاته بالاستثمار السياحي والثقافي في ما تملكه رياق من مقومات، لا يرى أن رياق يمكنها أن تستعيد دورها كنقطة وصل استراتيجية كتلك التي أمنها سابقًا القطار. بل يعرب عن قناعته بأن الدور الجديد لرياق يجب أن يكون رمزيًا “كنموذج لوحدة وطنية حقيقية في وجه الانهيار الطائفي والسياسي”. فكيف يمكن للوحدة الوطنية أن تعيش من دون الشريك المسيحي؟
يبادر المعلوف إلى تسمية عشر كنائس في البلدة، “كلها نظيفة ومرتبة وممتلئة بأيام الآحاد” ليؤكد أن الشريك المسيحي موجود وراسخ. ويتحدث عن أصوات العائلات التي تصدح من المنازل بنهاية كل أسبوع. ويرحب بالمبادرات التي تجعل أهل رياق يعوضون عن غياب البلدية في إبقاء شوارعهم نظيفة، وبيوتهم مرممة وأخيرًا مقابرهم أجمل مما كانت.
من يبيع الأراضي ولمَن؟
ومع ذلك لا يتوقف الهمس في البلدة عن بيع للأراضي. وبحسب الأب الياس إبراهيم المسيحيون وحدهم من يبيعون، معيدًا ذلك إلى انهيار الرابط بين الناس والأرض، خصوصًا أن البيع في معظم الحالات ليس بسبب الحاجة كما يقول، بل ربما نتيجة لفقدان الانتماء، أو انقطاع العلاقة بالذاكرة، والأخطر أن ذلك يجري في ظل تراجع دور النخب التي كانت تؤثر وتمون على أهل البلدة، في مقابل صعود خطاب طائفي لا يملك أية رؤية.
هذا في وقت يقلل عقيص من أهمية البيوعات التي حصلت، مشيرًا إلى أن ما بيع حتى الآن عقارات صغيرة، بينما معظم أصحاب العقارات الكبرى يتمسكون بها على رغم الإغراءات المالية.
الاستثمار أولًا أم الاستقرار؟
يختزل الحديث عن بيع الأراضي كل العقبات والصعوبات التي حالت دون استقطاب رياق للاستثمارات طيلة السنوات الماضية، وهذا ما جعل الجيل الجديد في البلدة أقل حماسًا لها وتعلقًا بها. ومع ذلك يرى كمال عقيص أن مبادرة كمثل افتتاح سينما “الريفولي” ربما تفتح شهية الاستثمارات الشابة في القطاع الترفيهي بالشارع الموازي، والذي يضم صالة أخرى أيضًا، “سينما بيبلوس”، وهي مؤهلة لإعادة الافتتاح.
ولكن أيهما يجب أن يسبق الآخر، الاستقرار أولًا أم الاستثمار، خصوصًا أن رياق لم تلتقط أنفاسها بعد العدوان الإسرائيلي الأخير عليها؟
يقول عقيص، عندما تزداد مشاريع الترفيه تعود رياق مقصدًا، وعندما يقصدها اللبنانيون ويتشجع الاستثمار، وبالتالي هي حلقة متواصلة برأيه. وإذ يؤكد أن أهل رياق لم يفقدوا حس الانتماء، يشدد في المقابل على أن هؤلاء ربما ينتظرون عودة الدولة إلى رياق مجددًا، هذه الدولة التي غابت لسنوات طويلة، فسمحت للدويلة بأن تتمدد وترتاح.
