
لبنان بين إرث خامنئي وشهية أردوغان
تنشغل الأوساط المراقبة بمتابعة العراقيل التي يضعها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للإنقلاب على مبادرة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لوقف الحرب في غزة، وفق خلفية اليمين الإسرائيلي، الذي شعر بالفشل في تحقيق أهدافه الفعلية، والتي تتلخص بعنوان عريض يقضي بتهجير الفلسطينيين من أرضهم بدءاً من قطاع غزة ولاحقاً من الضفة الغربية، وبالتالي القضاء نهائياً على أي فكرة تتعلق بفلسطين. ولم يعد خافياً أنّ اليمين الإسرائيلي يجد في الحرب الدائرة منذ أكثر من سنتين، فرصة تاريخية قد لا تتكرّر لتحقيق هذا «الحلم» التاريخي. لكن ثمة أسباباً أخرى تدفع بالحكومة الإسرائيلية إلى تفخيخ الأتفاق الذي فرضه ترامب على نتنياهو فرضاً.
لقد علّمتنا التجارب التاريخية أنّ نزاعاً من نوع آخر يدور عادة في المراحل النهائية للحروب. وهذا النزاع لا يقلّ شراسة عن السياق المدمّر لمراحل الحرب، ولو أنّه يحمل عنواناً مختلفاً: طريقة ترتيب أوراق القوة لمرحلة ما بعد الحرب. فعلى سبيل المثال، فإنّ المرحلة النهائية لمعارك الحرب العالمية الثانية، إن في برلين أو في اليابان، كانت تحاكي طريقة تقاسم الإرث الألماني تحضيراً لطريقة رسم المعادلة الدولية المقبلة، والتي عُرفت لاحقاً باقتسام العالم بين كتلة «العالم الحرّ» بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، والكتلة الإشتراكية بزعامة الإتحاد السوفياتي. ومن هذه الزاوية يجب النظر إلى الكباش القاسي الحاصل مع الذهاب إلى تثبيت وقف النار في غزة.
والسؤال الأبرز هو: أي معادلة يجري رسمها لكل المنطقة للمراحل اللاحقة؟ لا جدال في أنّ إقفال صفحة الحرب في غزة، ولو للمرحلة الراهنة، أنتج تفكيك المحور الذي عملت إيران على بنائه طوال العقود السابقة، والذي عُرف بـ«محور المقاومة». وفي تلك المرحلة نجحت إيران في فرض نفسها كقوة عسكرية مهيمنة في الشرق الأوسط. لا بل إنّ هذا النفوذ وضعها في مرتبة الدول التي لها وزن مؤثر على المستوى العالمي. ولو قدّر لطهران أن تنجح في إنتاج سلاح نووي، لكانت مكانتها الدولية تعززت كثيراً، خصوصاً أنّ إسرائيل ومنابع النفط في الخليج كانا سيصبحان تحت قبضتها، كما أنّ تأثيرها كان سيهدّد دولاً مهمّة أخرى، مثل تركيا وروسيا، والتي كان عدد من أراضيها يقع ضمن مجال الصواريخ الإيرانية، وكان من الممكن تركيب رؤوس نووية لها. من هنا يمكن تفسير المساهمة الروسية والتركية في إزاحة النفوذ الإيراني عن سوريا، عبر تأمين نجاح الإنقلاب عليه. المهمّ أنّ تطورات «حرب السنتين» والنتيجة التي آلت أليها الأمور، أدّت إلى تفكيك كثير من مكامن قوة إيران الأقليمية والداخلية حتى. وفي عزّ الحرب التي كانت دائرة، خصوصاً على الساحة اللبنانية وتحديداً مع «حزب الله»، تطور الموقف التركي من الجلوس كمتفرج إلى المشاركة في تقويض النفوذ الإيراني في سوريا. فعدا عن أنّ لتركيا مطالب أمنية تطاول المجموعات الكردية في شمال سوريا، فإنّه بات معروفاً أنّ لرئيسها رجب طيب اردوغان طموحاً كبيراً لاستعادة النفوذ الواسع في الزمن الغابر، يوم كانت السلطنة العثمانية تسيطر على كل هذه المنطقة.
وعلى هامش أعمال الجمعية العمومية للأمم المتحدة في أيلول الماضي، عقد الرئيس الأميركي لقاء بالغ الأهمية مع نظيره التركي، الذي وطأت قدماه الأراضي الأميركية للمرّة الأولى منذ 6 سنوات. وقيل يومها إنّ نتائج الإجتماع كانت إيجابية جداً، وتمّت الموافقة على تزويد أنقرة طائرات حربية أميركية متطورة. وبعدها أطلق ترامب مبادرته تجاه غزة. ويتردّد في الكواليس الديبلوماسية، أنّ أردوغان هو من أرغم حركة «حماس» على القبول بالإتفاق الذي شكّل ما يشبه إعلان إستسلامها. لكن النتيجة السياسية لما جرى كانت إمساك أنقرة بقرار «حماس» كلياً، بعدما كانت طهران تمسك بالجزء الأكبر منه طوال المراحل الماضية. أي أنّ تركيا التي نجحت في وراثة جزء من نفوذ إيران في سوريا، نجحت مجدداً في الإمساك بقرار حركة «حماس». ووفق هذه الصورة، يصبح من البديهي الإستنتاج بأنّ انحسار النفوذ الإيراني يساهم في صعود موقع تركيا الإقليمي، ليضعها كرقم صعب في المعادلة الإقليمية المقبلة، وهو ما يقلق إسرائيل وغيرها من القوى في المنطقة. وأردوغان يطرح عنوان قيادة محور سنّي معتدل، وقادر على الوقوف في وجه الجموح الإيراني. لكن هنالك عدداً من الدول العربية والخليجية التي تقلق من التأثيرات المستقبلية لهذا الطموح. وهي ليست المرّة الأولى التي يبرز فيها رهان أميركي على تعميم النموذج الأردوغاني في الشرق الأوسط. فالجميع يتذكر ما فعله الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما في بداية ولايته الرئاسية. يومها جاء إلى تركيا في ثاني زيارة خارجية له بعد كندا، وكان ذلك في نيسان 2009. وبعدها انطلقت ثورات «الإخوان المسلمين» في العالم العربي، قبل أن تؤدي نتائجها إلى فشل ذريع.
لكن الصورة تبدو مختلفة اليوم. فما هو مطروح ليس إنشاء أنظمة إسلامية أو نفوذ بالواسطة، بل نفوذ تركي مباشر، ولو على نطاق محدّد جداً ومدروس. فالدخول التركي المباشر إلى غزة سيقابله منح مصر قيادة القوة، ووضع النفوذ المالي بيد الخليج الذي يتولّى رعاية السلطة الفلسطينية. ولا حاجة للإشارة إلى الرقابة الصارمة التي ستفرضها إسرائيل.
والدخول التركي المباشر إلى غزة يجري في موازاة توسيع نفوذ أنقرة في بلاد الرافدين. وكما استندت طهران على المكونات الشيعية وتلك القريبة منها لتؤمّن تمدّداً ثابتاً في المنطقة، باشرت تركيا في الإهتمام بالمجموعات التركمانية في المنطقة. وهكذا بدأت تحرص على التواصل مع تركمان العراق، والعمل على دعم مطالبهم والإهتمام بشؤونهم وزيادة حضورهم داخل السلطة. لكن الواقعية تفرض الإقرار بأنّ حجم هؤلاء يقف حائلاً أمام دور داخلي كبير، على غرار المكون الشيعي الهائل. وهو عامل يطمئن الفريق المناهض للدور الذي تسعى أنقرة اليه. لكن حضور الجماعات التركمانية يتركّز في مناطق جغرافية حساسة ومهمّة مثل كركوك الغنية بالنفط، على رغم من وجود تماس مباشر مع الأكراد.
ألّا أنّ الوضع مختلف تماماً في سوريا، حيث حازت تركيا على أوراق قوة قابلة لأن تتضاعف. وخلال استقباله لأردوغان في نيويورك قال ترامب للصحافيين بصوت مرتفع: «هذا الذي أسقط بشار الأسد، هذا هو الذي فاز في سوريا». وهذا الكلام ليس من باب المجاملة فقط.
وفي شمال سوريا، نشرت تركيا وحدات عسكرية قاربت 30 ألف جندي، وعززتها بمظلة جوية وحماية صاروخية متكاملة، وتساندها فصائل محلية ذات ولاء تركي تحت مسمّى «الجيش الوطني السوري». في كل الحالات، فإنّ الموقف العام في الشارع السوري هو أنّ تركيا هي دولة صديقة، وهذا التصنيف دفع بكثير من المصانع والمؤسسات الإقتصادية الى النزوح والإستقرار في تركيا، ما عزّز من القدرات الإقتصادية التركية، وجعل أنقرة في الوقت نفسه تؤثر بمقدار كبير في الواقع الإقتصادي السوري المتهالك نتيجة الحرب.
لكن طموح أردوغان بتوسيع نفوذه في كل سوريا إصطدم بمحاربة إسرائيلية. ففي الوقت الذي سعت أنقرة للمشاركة في إعادة تنظيم الجيش السوري ورعايته عسكرياً وسياسياً، عملت إسرائيل على إجهاض سعيها لإنشاء قواعد عسكرية في تدمر وحمص وحماه، حيث استهدفتها بغارات جوية. ويعتقد البعض أنّ واشنطن قد تكون باركت سراً التصدّي الإسرائيلي لتوسع تركيا في سوريا. فالورقة الممنوحة لها ليست مفتوحة في المطلق. كذلك عمدت إسرائيل على تركيز قواعد رصد ومراقبة عسكرية لها في جبل الشيخ، وتأمين مناطق نفوذ قوية في الجنوب عبر السويداء وأخرى في مناطق الأكراد. ولا حاجة للإشارة إلى أنّ أجهزة المراقبة والرصد في قمة جبل الشيخ الإستراتيجية تكشف كل الحركة العسكرية التركية في سوريا وصولاً إلى جزء أساسي من تركيا.
كذلك تعاني تركيا من الحضور الروسي المهمّ في المنطقة الساحلية. فمنذ الدخول العسكري الروسي المباشر في 30 أيلول 2015 في سوريا، نجحت موسكو في تحقيق مجموعة مكاسب استراتيجية، وفي طليعتها قاعدة طرطوس البحرية وحميميم الجوية، وفق اتفاق ينتهي بعد 49 سنة. ولكن ومع تعاون موسكو الخفي لإسقاط نظام الأسد وضمناً إخراج إيران من دمشق، تمكن بوتين من ضمان مصالحه مع السلطة الجديدة، وهو ما سمح للجيش الروسي بالعودة الى مطار القامشلي. وما كان ذلك ليحصل لولا موافقة ضمنية من واشنطن، على رغم من الإمتعاض المكبوت لأردوغان. وهذا ما ينطبق أيضاً على زيارة الرئيس السوري احمد الشرع لموسكو. فالحضور العسكري الروسي يشكّل أيضاً عامل ضبط لسعي أردوغان الى توسيع نفوذه.
وإزاء ما تقدّم، فإنّ وضع اللمسات الأخيرة على مشروع تصفية الإرث الإيراني في المنطقة قابله نزاع صامت حول ترتيب أحجام القوى في المرحلة المقبلة، وطريقة رسم معادلة القوة في المنطقة. فمن الواضح أنّ استراتيجية واشنطن التي تقوم دائماً على مبدأ التوازن بين القوى، تفضّل أيضاً التعامل مع المشكلات المعقّدة للشرق الأوسط، من خلال قوى تتقن الخطاب الإيديولوجي الديني لتخدير الشارع، ولكنها في الوقت نفسه تمتهن السياسة الواقعية، والتي تسمح بتأمين مصالحها العريضة. وهذا ما كانت تفعله مع إيران حتى. فطهران ساعدت واشنطن في تأمين غزوها العسكري لكل من أفغانستان والعراق. لكن ومع اشتداد ساعدها على مستوى المنطقة، عملت طهران على رسم دور أكبر بكثير مما كانت تأمله واشنطن، وكان ما كان.
ووفق ما تقدّم، فإنّ توسيع أنقرة لنفوذها في اتجاه لبنان لا يبدو واقعياً. صحيح أنّ هنالك قرى من أصول تركمانية في عكار، وأيضاً مؤسسات ساعدت تركيا على قيامها مثل المستشفى في صيدا، إضافة إلى مجموعات تلوذ لها بالولاء كما في البقاع الأوسط، إلّا أنّ هذا الحضور بقي محدوداً لا بل ضعيفاً، وغالب الظن لم يتمّ تفعيله إستجابة للخطوط الحمر المرسومة. فالساحة اللبنانية، وخصوصاً السنّية، موضوعة تحت العباءة السعودية. لا بل إنّ الشعبية الكاسحة داخل المكون السنّي مكرّسة للدور السعودي، وهو ما يدفع إلى الإعتقاد بأنّ المصلحة الأميركية العريضة تدفع في اتجاه إنهاء الجزء الأخير من عملية إخراج النفوذ الإيراني من الساحة اللبنانية. ومن هذه الزاوية تُطرح سيناريوهات الحرب في حال لم يحصل ذلك سلماً. والمقصود هنا السلاح الثقيل لـ«حزب الله». ومنعاً للإلتباس، وفق ما تشرحه أوساط ديبلوماسية، فإنّ أخراج إيران من لبنان لا يعني أبداً تحطيم الدور الشيعي، لا بل على العكس، فإنّ التوازنات المطلوبة تتطلّب دوراً شيعياً، ولكن ليس إيرانياً. وتضيف هذه الأوساط، أنّ المقصود هو تعميم النموذج السياسي لرئيس مجلس النواب نبيه بري الحاضر بقوة، ولكن خارج العباءة الإيرانية.
وفي المحصلة، فإنّ العمل على ترتيب المعادلة الإقليمية الجديدة يتطلّب الإنتهاء من الملف اللبناني تماماً وفق ما هو حاصل في غزة، وفق المعنى السياسي، على أن يحصل ذلك بلا مماطلة، قد تكون طهران تراهن عليها لإيجاد ثغرات في التنافس السائد يمكن أن تنفذ من ثقوبه للمحافظة على بعض من دورها. وهو ما يعني أنّ هذه المعالجة قد تأخذ طابع الحماوة، وهو ما يتمناه نتنياهو لأسبابه الداخلية، وفي وقت ليس ببعيد.
هي لعبة «تغيير الدول» والتي تبقى أكبر من الجميع.
