إسرائيل تُغْرِق البقاع بالغارات وتصيب رهانَ لبنان على «الميكانيزم»

إسرائيل تُغْرِق البقاع بالغارات وتصيب رهانَ لبنان على «الميكانيزم»

المصدر: الراي الكويتية
24 تشرين الأول 2025

لم يكن ممكناً قراءة موجة الغارات العنيفة التي ضَرَبَتْ اليوم الخميس، البقاع اللبناني، إلا على أنها طَلائع «عاصفة النار» التي تقترب في سياقِ الضغط على «بلاد الأرز» للالتحاق بقطارِ التسويات التي يشكل اتفاقُ غزة نواتها الرئيسية وبالتوقيتِ الذي بات مضبوطاً على مشروع الرئيس الأميركي دونالد ترامب لـ «عصر ذهبي من السلام والازدهار في المنطقة».

وفي الوقت الذي كان ترامب وكبارُ مسؤولي إدارته يُكْمِلون، عن بُعد وعلى الأرض، مساراً بدت معه واشنطن وكأنّها «تتسلّم دفة القيادة» في إسرائيل، وذلك في سياقِ ضمانِ نجاح خطةِ غزة، ارتقتْ إسرائيل في تصعيدها المتدرّج على جبهة لبنان حيث انتقلتْ من ضرب البنية التحتية للإعمار إلى استهدافِ «البنيانِ الإستراتيجي» الترسانة العسكرية لـ «حزب الله» وتحديداً بنية إنتاج الصواريخ الدقيقة في البقعة التي تعتقد تل أبيب أنها «خزان» التخزين والتصنيع، أي في البقاع ولا سيما بعلبك والهرمل.

ومن خلف أحزمة النار التي لفّت جرود جنتا على السلسلة الشرقية وامتدّت لتشمل مواقع عدة على أطراف بلدة شمسطار غرب بعلبك، ما أدى إلى سقوط شخصين وعدد من الجرحى وحالة هلع بين صفوف طلاب ثانوية شمسطار التي تحطم عدد من ألواح زجاج نوافذها، وصولاً إلى غارتين على جرود الهرمل، لاحتْ مؤشراتُ رَفْعٍ لمنسوبِ الاستهدافات الإسرائيلية التي جاءتْ على مسرح عملياتٍ بالغ الدقة تحْكمه عقدتان متوازيتان:

– الأولى «الأَقفالُ» على المَسار الدبلوماسي الذي بَلَغَ في شكله «المرقّط» عبر لجنةِ الإشراف الخماسية على تنفيذ اتفاق وقف النار (27 نوفمبر) أفقاً مسدوداً حال على مدى الأشهر الـ 11 الماضية من دون إخماد جبهة لبنان.

– والثانية، تَرَدُّد بيروت وارتباكها بإزاءِ أي تَفاوُضٍ ولو غير مُباشِر مع إسرائيل، وفق ما كان طرح رئيس الجمهورية العماد جوزف عون لمعالجة المسائل العالقة وضمان ألا يُعاكِسَ لبنان مسارَ التسويات في المنطقة، وهو التفاوض الذي «يُثْقِلُ» الحزب طريقَه باعتبار أنه سيَعْني رَبْطَ تطبيق اتفاق 27 نوفمبر، وورقة الموفد الأميركي توماس برّاك وخطةِ الجيش اللبناني لسَحْبِ سلاح الحزب، بإطارٍ صارِمٍ لا فكاك منه وصولاً إلى تفكيك ترسانته، وسط بروز اتفاق غزة كنموذج تَفاوُضي تَرْجَمَ معادلة «السلام بالقوة» وقاده «الكاوبوي الأميركي» بنفسه مستفيداً من مأزقِ بنيامين نتنياهو «المنبوذ» دولياً، كما من تجريد إيران من قدراتها على «التَخريب الإقليمي» بعدما صارت نفسها «خط الدفاع» الأول عن الجمهورية الاسلامية.

تفريغَ مهمة «المكيانيزم»

وتَعاطَتْ أوساط مطلعة مع الغارات على أنها من مقدّماتِ الردّ الإسرائيلي على نعي رئيس البرلمان نبيه بري مقترح عون للتفاوض وإعلانه «لم يعد هناك من مسار دبلوماسي قائم، سوى العمل ضمن الآليّة المتَبعة عبر لجنة الإشراف على تنفيذ اتفاق وقف النّار (الميكانيزم)» بعدما رفضت تل أبيب، كما قال، طرحاً أميركياً «يقضي بإطلاق مسار تفاوضي، يُستهلّ بوقف العمليّات الإسرائيليّة لمدّة شهرين، وينتهي بانسحاب من الأراضي اللّبنانيّة المحتلّة، وإطلاق مسار لترسيم الحدود وترتيبات أمنيّة».

ورأت الأوساط أن إسرائيل تَعَمَّدَتْ عملياً تفريغَ مهمة «المكيانيزم» من الأبعاد التي أَسْبَغَها عليها بري كـ «إطارٍ بديلٍ» لتفاوضٍ تصرّ تل أبيب، كما واشنطن، على أن يكون مباشراً مع بيروت، في موازاة إشاراتٍ كانت سرت إلى محاولاتٍ لبنانية لـ «تطوير» دور اللجنة التفاوضي والارتقاء به من العسكري البحت (يضم جنرالات من الولايات المتحدة وفرنسا ولبنان وإسرائيل واليونيفيل) إلى المدني أيضاً.

وبهذا المعنى، وقّعتْ إسرائيل «بالنار» اليوم الخميس، تصميمَها على مفاوضاتٍ مباشرة مع لبنان مدجَّجة بكل «الأفخاخ» الدبلوماسية والسياسية والأمنية، ولا سبيل لقطع الطريق عليها واقعياً إلا بأن يعلن الحزب موافقةً «مستحيلة» على تَسليم سلاحه للدولة بما يمنع جَرَّ البلاد إلى اتفاقٍ تحت ضغط «الزناد» ولن تقدّم فيه تل أبيب شيئاً إلا «من جيب» بلاد الأرز، وربما تسبقه حرب جديدة، شاملة أو في شكل ضربات موسّعة يُعتقد أن واشنطن لن تمانعها، بدليل تحذير براك الاثنين من أنه «إذا استمرّت بيروت بالتردّد في قضية السلاح فقد تتصرّف إسرائيل منفردة، وعندها ستكون العواقب وخيمة» و«إذا فشل لبنان في التحرّك، فإنّ الجناح العسكري لحزب الله سيكون حتماً أمام مواجهة كبرى مع إسرائيل»، داعياً إلى محادثات أمنية وحدودية.

«حزب الله» متهيّب

وإذ تشير معطياتٌ إلى أن «حزب الله» متهيّب المرحلة ومتأهب لها في الوقت نفسه وخصوصاً في ظل مخاوف من خطة إسرائيلية لتوغل في المنطقة الحدودية جنوباً لفرْض منطقة عازلة تُلاقي الشريط العازل في جنوب سوريا، لم يكن عابراً أن تأتي موجةُ الغارات بالتزامن مع لقاءاتٍ كان يعقدها الرئيس الجديد لـ «الميكانيزم» الجنرال الأميركي جوزف كليرفيلد مع عون ثم رئيسيْ الحكومة نواف سلام والبرلمان بري، في «تأكيدٍ» على قراءة التصعيد الإسرائيلي على أنه برسْم اللجنة التي تَعتبرها تل أبيب «صندوق شكاوى» ضد لبنان والحزب، ما دام الأخير لم يسلّم سلاحَه في جنوب الليطاني وشماله وفق تفسيرها لاتفاق 27 نوفمبر، كمدخل لانسحابها من الأراضي التي مازالت تحتلها جنوباً وإطلاق الأسرى ووقف الاعتداءات.

وعلى وقع تقارير كانت تحدثت عن أن لبنان استفسر (عشية الغارات) من «المكيانيزم» عن «سرّ» التمشيط على مدار الساعة الذي تقوم به المسيَّرات للمناطق اللبنانية بما في ذلك المقرات الرئاسية في بيروت، أبلغ عون إلى كليرفيلد «ضرورة تفعيل عمل اللجنة لوضع حد للاعتداءات الإسرائيلية المتتالية على لبنان وانتهاك اتفاق نوفمبر»، مؤكداً «أن لبنان الذي التزم الاتفاق منذ إعلانه، يعلق أمالاً كبيرة على عمل لجنة الاشراف للمساعدة في إعادة الاستقرار الى منطقة الجنوب ومنع الاعتداءات الإسرائيلية التي لا مبرر لها وغير مقبولة».

وفيما أعلن أن الجيش اللبناني «يقوم بواجبه كاملاً في جنوب الليطاني ويعزز انتشاره يوماً بعد يوم»، طالب «بالضغط على إسرائيل للانسحاب من الأراضي التي تحتلها حتى يتمكن الجيش من استكمال انتشاره حتى الحدود الجنوبية الدولية»، لافتاً الى «ما حققه الجيش حتى الان لجهة «تنظيف» الأماكن التي حل فيها وإلغاء المظاهر المسلحة والكشف على الانفاق ومصادرة كل أنواع الأسلحة والذخائر على رغم الصعوبة الجغرافية للجنوب»، ومشيراً إلى «أن ما من أحد من أبناء الجنوب خصوصا ولبنان عموماً، يريد العودة الى حالة الحرب».

وكان الجنرال الأميركي اطلع عون على أجواء اجتماع لجنة «الميكانيزم»، لافتاً الى ان اجتماعاتها «ستصبح دورية بهدف العمل على تثبيت وقف الأعمال العدائية في الجنوب»، ومشيراً الى وضع سلسلة خطوات لتحقيق هذا الهدف.

وخلال استقبال كليرفيلد، شدد سلام على «أنّ لبنان ملتزم بإنهاء عملية حصر السلاح جنوب نهر الليطاني قبل نهاية العام، كما ورد في خطة الجيش»، مؤكداً في المقابل «أن على إسرائيل أن تقوم بواجباتها والتزاماتها لجهة الانسحاب من الأراضي اللبنانية المحتلة ووقف اعتداءاتها المستمرة».

وكان سلام أكد بعد زيارته مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبداللطيف دريان أن الحكومة ملتزمة «تنفيذ مندرجات البيان الوزاري لإنقاذ لبنان من محنته وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها بقواها الذاتية (…) ولا تَهاوُن في أي قرار تتخذه الحكومة».

أهداف الغارات

وسرعان ما حجب دخان الغارات المواقف الرسمية، على وقع إعلان الناطق بلسان الجيش الإسرائيلي للإعلام العربي أفيخاي ادرعي، أن الغارات طاولت معسكراً للتدريب وموقعاً لإنتاج صواريخ دقيقة تابعين للحزب في البقاع.

وقال «استخدم حزب الله المعسكر بغية تدريب وتأهيل عناصره وبهدف التخطيط والإشراف على تنفيذ مخططات إرهابية ضد قوات الجيش ودولة إسرائيل (…) وخَضَعَت العناصرُ الارهابية إلى تدريبات رمي بالذخيرة الحية واستخدام وسائل قتالية من أنواع مختلفة».

وأضاف «كما هاجم جيش الدفاع بنى تحتية عسكرية داخل موقع لإنتاج الصواريخ الدقيقة لحزب الله في لبنان إلى جانب بنى تحتية إرهابية داخل موقع عسكري للحزب في منطقة شربين في شمال لبنان (هي واقعياً في الهرمل)».

من جهته، أكد مسؤول عسكري إسرائيلي لـ «العربية/الحدث»، أن هدف الهجمات منع إعادة البنية العسكرية للحزب، قائلاً «لن نسمح لحزب الله بإعادة تأهيل بنيته التحتية».

وأضاف أن إسرائيل «تتعامل فوراً مع أي محاولة من حزب الله لبناء قوته، وسنتصدى مباشرة لأي تهديد في لبنان ومنه». وشدد على أن القوات الإسرائيلية «ترصد أي نشاط للحزب على طول الجبهة».

وأكد أن إسرائيل هاجمت أكثر من 300 عنصر من الحزب منذ اتفاق وقف النار في 28 نوفمبر 2024.