ماذا تريد واشنطن من تصوير لبنان على أنه… دولة فاشلة؟

ماذا تريد واشنطن من تصوير لبنان على أنه… دولة فاشلة؟

الكاتب: ايليا ج. مغناير | المصدر: الراي الكويتية
3 تشرين الثاني 2025

.. في العلوم السياسية، تُعرّف الدولة الفاشلة بأنها الدولة التي لم تعد قادرة على توفير الأمن والعدالة والخدمات الأساسية لمواطنيها، أو احتكار العنف المشروع داخل أراضيها.

عندما وصف المبعوث الأميركي توماس براك، لبنان بأنه «دولة فاشلة»، لم يكن يُشخص الانهيار فحسب، بل كان يرسم خطاً سياسياً واضحاً. فهل هو دقيق في وصفه لبنان بأنه فاشل بينما يواصل لقاء وزرائه وقادته ودبلوماسييه، ويحثهم على اتخاذ إجراءات من شأنها أن تُثقل كاهل حتى الحكومة الهشة، التي مازالت تعاني آثار الحرب والانهيار الاقتصادي والقصف الإسرائيلي المتواصل؟ وتالياً ما هي النيات الحقيقية وراء هذا التعريف؟

للوهلة الأولى، يبدو تصريح براك وكأنه يعكس معاناة لبنان. لقد انهار الاقتصاد، وفقدت العملة أكثر من 95 في المئة من قيمتها، والكهرباء نادرة، ويعتمد المواطنون على المولدات الخاصة وشاحنات المياه. وقد تم تفريغ قدرة الدولة على توفير التعليم والرعاية الصحية والرعاية الاجتماعية.

بالنسبة إلى واشنطن، فإن هذا التعريف يناسب التعريف الأكاديمي للدولة الفاشلة. ومع ذلك، مازال لبنان يمتلك وزارات عاملة، وجيشاً معترفاً به، وبرلماناً منتخباً، وسلطة قضائية، وشبكة دبلوماسية. إنه ليس الصومال في التسعينيات. وتالياً، فإن وصف «فشل» يبسط الأمور ويمحو الفرق بين الانهيار والقيود، بين دولة لا تستطيع التصرف وأخرى غير مسموح لها بذلك.

عندما أعلن براك أن «الدولة هي حزب الله»، قدم أرقاماً تهدف إلى تضخيم الخلل: 40 ألف مقاتل من الحزب يتقاضون 2200 دولار شهرياً مقابل 60 ألف جندي لبناني يتقاضون 275 دولاراً. من 15,000 إلى 20,000 صاروخ لـ«حزب الله» ضد جيش مُجهز بـ«سيارات جيب قديمة وبنادق AK-47».

هذه الأرقام بعيدة كل البعد عن الدقة. يُقدّر معظم المحللين المستقلين القوة الفعلية للحزب بنحو ضعف عدد المقاتلين المذكورين، بالإضافة إلى عدد مماثل من الاحتياطيين، مع رواتب شهرية غالباً ما تتراوح بين 500 و1200 دولار. من المرجح أن تتجاوز ترسانته أكثر من 20 ألف صاروخ بكثير. رواتب الجيش اللبناني، رغم انخفاضها بسبب انهيار العملة، تُحوّل جزئياً إلى دولارات، ومازالت قوته الإجمالية متماسكة. هذه التشوهات ليست عرضية. إنها تخدم غرضاً سياسياً: تصوير الدولة اللبنانية على أنها جوفاء، و«حزب الله» على أنه كلي القدرة، والمطالب الأميركية على أنها السبيل الوحيد للتعافي.

بوصفه لبنان دولة فاشلة، يُنفذ براك خطوتين متزامنتين. إنه ينزع الشرعية عن المسؤولين الذين يلتقيهم، محولاً محاوريه إلى رموز للخلل، بينما يُعيد صياغة النفوذ الأميركي وحلفائه كمهمة إنقاذ. يسمح سرد «الدولة الفاشلة» لواشنطن بالقول إن الإشراف الخارجي ضروري لاستعادة النظام – محولاً الإكراه إلى إحسان.

إنه سيناريو مألوف، تكرر بعد حرب العراق 2003، وليبيا 2011، وفي السلطة الفلسطينية بعد أوسلو: تصبح السيادة مشروطة، ولا تُمنح إلا مقابل الطاعة. إن تحذير براك من وجوب نزع سلاح «حزب الله» في لبنان بحلول نهاية السنة ليس مطلباً واقعياً؛ إنه حيلة سياسية.

الجيش اللبناني ليس مجهزاً ولا مُفوضاً سياسياً لمواجهة حزب يحظى بدعم جماهيري كبير بين مواطنيه. إن محاولة القيام بذلك من شأنها أن تُمزّق الجيش على أسس طائفية وتُخاطر بإغراق البلاد في حرب أهلية مجدداً، وهو السيناريو الذي سترحب به إسرائيل، والذي ألمح إليه براك نفسه في مقابلات سابقة، حيث أكد أن الدعم الأميركي للجيش اللبناني لا يهدف إلى مواجهة إسرائيل، بل إلى مواجهة «حزب الله»، وتالياً، مواجهة اللبنانيين أنفسهم.

بمثابة إنذار نهائي أكثر من كونه هدفاً سياسياً، فهو فخ: اختبار مصمم لإثبات «فشل» لبنان. عندما يرفض الجيش حتماً قتال شعبه، يمكن لواشنطن أن تزعم: لقد منحنا بيروت فرصة؛ لم يستطع لبنان التحرك؛ لقد فشلت الدولة. ثم تُضفي هذه الرواية الشرعية على كل ما يلي – التصعيد الإسرائيلي، أو العقوبات الأكثر صرامة، أو التفويض الدولي الموسع على الأراضي اللبنانية.

وراء خطاب براك، تكمن عقيدة أميركية أوسع: السيادة لم تعد مطلقة؛ بل مُكتسبة. «الدولة المسؤولة»، في هذا المصطلح، هي تلك التي تُلبي التوقعات الأمنية الأميركية والإسرائيلية كنزع سلاح الجهات غير الحكومية، والتوافق الدبلوماسي مع المواقف الأميركية، وفتح اقتصادها للرقابة الغربية. أي دولة تقاوم هذه المعايير يُمكن إعادة تصنيفها على أنها «فاشلة»، وتعليق سيادتها، وإلغاء قراراتها باسم الاستقرار الإقليمي. وهكذا يُصبح لبنان مختبراً لشكل جديد من الاستقلال المشروط – استقلال يُحوّل البقاء إلى امتثال.

بتصويره انهيار لبنان على أنه نتيجة فعلية – سوء إدارة مصرفية، فساد، طائفية – يُخفي براك بسهولة العوامل الخارجية التي عجّلت به: أعوام من العقوبات التي قيدت التدفقات المالية وواردات الوقود؛ وقيود على الطاقة وحصار المشتريات العسكرية للجيش اللبناني؛ وتدمير إسرائيل المتكرر للبنية التحتية، وعشرات القرى وأكثر من 600 مبنى (مدمر أو متضرر) في ضواحي بيروت.

في هذه الرواية، يبدو الغرب كمنقذ محتمل، وليس مشاركاً في الأزمة، وتالياً فإن وصف الدولة الفاشلة ينقل اللوم من البنية الجيو- سياسية إلى عدم الكفاءة المحلية.

كما يخدم الموعد النهائي المفروض غرضاً آخر: فهو يولّد شعوراً مصطنعاً بالإلحاح. إذا فشل لبنان في التحرك، يمكن لواشنطن أن تعلن عن نفاد صبرها وتزعم أن «المجتمع الدولي يجب أن يتدخل». غالباً ما تسبق هذه «الساعات الموقوتة» تحولات سياسية: عقوبات أشد، أو توسيع حرية إسرائيل تحت ستار الردع. ليس المقصود من الانذار أن يتم الوفاء به؛ بل المقصود منه تبرير ما سيأتي بعد ذلك.

كما صُممت لغة براك لجمهور متعدد. بالنسبة إلى إسرائيل، أكدت واشنطن التزامها بتحييد «حزب الله» كجزء من إستراتيجيتها المناهضة لإيران. وبالنسبة إلى الكونغرس والناخبين الأميركيين، أظهرت صلابة في السياسة الخارجية.

إن وصف لبنان بالدولة الفاشلة هو أيضاً تكتيك تفاوضي. يقوم على اذلال متعمد. فمن خلال إهانة السيادة اللبنانية، يصمم براك حافزاً للنخب لإثبات خطئه من خلال التنازلات.

ويسير المنطق على النحو الآتي: «هل تريد أن تتوقف عن وصفك بالدولة الفاشلة؟ انزع سلاح الحزب، وخصخص مرافقك، ووقع على إطار عملنا للاستقرار». تصبح الإهانة ورقة مساومة، أي شكل من أشكال الإكراه الدبلوماسي المقنع بدافع القلق.

إذا كثّفت إسرائيل ضرباتها على لبنان في الأشهر المقبلة، فإن واشنطن لديها مبررها الجاهز بالفعل: فشل لبنان في السيطرة على «حزب الله»؛ وإسرائيل تتصرف دفاعاً عن النفس. إن إعلان «فشل» لبنان مُسبقاً يُعدّ تنازلاً عن المساءلة. فكل ضربة إسرائيلية مُستقبلية ستبدو حينها رداً على الغياب، لا على العدوان.

لبنان اليوم هشٌّ بلا شك: بنيته التحتية مُدمّرة، واقتصاده مُفرّغ، وطبقته السياسية مُفقَدة الصدقية. لكنه ليس غائباً. مازالت البلديات تجمع النفايات؛ والمحاكم تعمل، والجيش يُسيّر دوريات، والدبلوماسيون يُفاوضون. مشكلة الدولة ليست الفناء، بل الاختناق. وهذا الاختناق نابع من شبكة فساد داخلي ومخطط خارجي: حصار مالي، وحظر أسلحة، وحرب استنزاف إقليمية يُستخدم فيها لبنان كعازل وورقة مساومة.

إذن، هل لبنان دولة فاشلة أو يُصوّر على أنه كذلك؟ يخدم سرد الفشل أغراضاً عدة: فهو يُعفي السياسة الغربية من المسؤولية، ويضغط على النخب اللبنانية للتوافق مع الأولويات الأميركية والإسرائيلية، ويُوفّر غطاءً دبلوماسياً للتصعيد.

إن مطلب براك بنزع سلاح «حزب الله» من لبنان بحلول نهاية السنة لا يتعلق بالقدرة بل يُعيد تعريف معنى الدولة: لا تكون «كاملة» إلا إذا امتثلت. فالمبعوث عينه الذي يُدين ضعف لبنان يلتقي دائماً بمسؤوليه، مستغلاً هذا الضعف لإجبارهم على الامتثال.

انذاره النهائي لا يُهدد بالإصلاح، بل بالتمزق – صراع داخلي من شأنه أن يُدمر ما تبقى من وحدة لبنان، ويُقدم لإسرائيل الهدية الإستراتيجية التي طالما رغبت فيها: جار منقسم عاجز عن الدفاع الجماعي.

يعتمد بقاء لبنان الآن على مقاومة كلا شكلي الدمار: الدمار المادي الناجم عن الضربات الإسرائيلية، والمحو السياسي المُضمَر في رواية براك. تتطلب إعادة بناء الدولة موارد وشرعية ووحدة – وهي أمور لا يمكن لأي منها أن يزدهر في ظل تهديد دائم، لا سيما في ظل رفض الولايات المتحدة الدعم المالي الإقليمي لإعادة الإعمار.

إذا أرادت واشنطن حقاً استقرار لبنان، فعليها أن تسمح للدولة بالدفاع عن حدودها، وإعادة بناء اقتصادها، والتفاوض على عقيدتها الأمنية الخاصة. إن المطالبة بنزع السلاح من دون سيادة، وإعادة الإعمار من دون استقلالية، هي مطالبة بالمستحيل، ثم إدانة الفشل.

لبنان بلد مقيد، بين الانهيار والسيطرة. وقدرته على التحرر من هذه القبضة لا تعتمد فقط على قادته، بل على ما إذا كان العالم سيسمح له بالوجود كدولة أصلاً، ويمنع إسرائيل من انتهاك القوانين الدولية وسيادة الدول المجاورة.