
فوز ممداني لبنانيّاً: “قوى التّغيير” تحتفل مع سوروس
عاد الديمقراطيّون من بعيد، بفوز زهران ممداني في انتخابات عمدة نيويورك، في لحظة بدا فيها أنّ الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب أحكم السيطرة على المشهد السياسيّ الأميركيّ، وامتداداً على الساحة الدوليّة.
فعل ترامب ما شاء في واشنطن منذ تنصيبه. لم تمنعه ضآلة الأغلبيّة الجمهوريّة في مجلسَي النوّاب والشيوخ من تمرير أجندته التشريعيّة، لا سيما قانون الإنفاق الضخم المسمّى “القانون الكبير والجميل”، والذي هدم فيه الكثير من ركائز السياسات الديمقراطيّة التي أُقرّت في عهد سلفه جو بايدن. آخر نجاحاته تمرير قانون إعادة فتح الحكومة بعد 41 يوماً من إغلاقها، من دون الرضوخ لمطالب الديمقراطيّين. فوق ذلك، يلقي انشقاق ثمانية أعضاء من الديمقراطيّين بثقله على وحدة الحزب وتماسكه.
في موسم الهيمنة الترامبيّة، أتى صعود ممداني ليطرح أسئلة على القيادة العميقة للحزب الديمقراطيّ عن الخطاب الذي ستقود به الانتخابات النصفيّة العام المقبل، لاستعادة الأغلبيّة في مجلسَي الشيوخ والنوّاب وتقييد حركة ترامب في النصف الثاني من ولايته.
عكَس خطاب الفوز الذي ألقاه ممداني عمق هذا الجدل. قال إنّ انتخابات نيويورك أوضحت كيف بالإمكان هزيمة ترامب. هذا هو لبّ النقاش “الداخليّ” بين الديمقراطيّين.
ينتمي ممداني إلى أقصى اليسار التقدّميّ في الحزب الديمقراطيّ، ولم تكن حملته تحظى بالتأييد العلنيّ إلّا من قلّة من الوجوه البارزة في الحزب. لم يحظَ بتأييد علنيّ من زعيمَي الأقليّة الديمقراطيّة في مجلس الشيوخ تشاك شومر ومجلس النوّاب حكيم جفريز. ظلّ الرئيس الأسبق باراك أوباما صامتاً إلى ما بعد الفوز، وبالكاد هنّأ رفيقه في الحزب على “قوّة حملته”، من دون أن يتبنّى مضامينها. وحده حاكم كاليفورنيا غافِن نيوسِم بدا مستعدّاً للرسملة على يساريّة ممداني لدعم حظوظه بالفوز ببطاقة الترشيح للانتخابات الرئاسيّة المقبلة.
أرضيّة للخطاب اليساريّ
على أنّ المؤسّسة العميقة في الحزب الديمقراطيّ تواجه خياراً دقيقاً بين النأي عن الخطاب اليساريّ الذي انتصر في نيويورك، أو الاقتراب منه أكثر، بعدما بدا أنّ له أرضيّة أكبر من التوقّعات لدى الشباب، خصوصاً في العناوين المتعلّقة بالسياسات الاجتماعيّة والعرقيّة وفلسطين. بدا من اختبار نيويورك أنّ الاختيار ليس سهلاً. مليارديرات الحزب في عاصمة الرأسماليّة لم يلتزموا نتائج الانتخابات التمهيديّة، بل دفعوا بالمرشّح الخاسر فيها أندرو كومو ليخوض الانتخابات مستقلّاً. لكن اتّضح في النهاية أنّ الصعود اليساريّ في الحزب حالة جدّيّة وربّما غير مسبوقة في تاريخ السياسة الأميركيّة.
لكنّ مشهد الانقسام في أوساط الديمقراطيّين أكثر تعقيداً. من جهة، يمثّل الجناح الليبراليّ التقليديّ الامتداد الطبيعيّ لعهدَي أوباما وبايدن، ومن وجوهه تشاك شومر وكامالا هاريس، وهو يركّز على الإصلاح التدريجيّ، وعلى تحالفات مستقرّة مع الشركات والنقابات، وعلى مقاربة وسطيّة في السياسة الخارجيّة.
ثمّة جناح تقدّميّ براغماتيّ أقرب إلى المؤسّسة العميقة، الأبرز فيه حكيم جفريز وإليزابيث وارن وغافِن نيوسِم، وهو جناح يؤيّد إصلاحات اقتصاديّة واجتماعيّة أعمق ممّا تتبنّاه المؤسّسة التقليديّة، لكنّه لا يتبنّى خطاب اليسار التقدّمي. أمّا الجناح اليساريّ التقدّميّ، فيتصدره برني ساندرز وأكساندريا أوكاسيو-كورتيز وممداني، فيمثّل جناحاً مستقلّاً في روحه ولغته. لذلك تحوُّله إلى قوّة انتخابيّة حقيقيّة يجعل الحزب أكثر حساسيّة لخطابه.
يمثّل صعود ممداني لحظة فارقة في إعادة تشكيل التوازنات داخل الحزب. للمرّة الأولى يُهزم المتبرّعون الكبار للحملات الديمقراطيّة من مليارديرات نيويورك، من أمثال مايكل بلومبرغ، وهو ما يشكل نذيراً للّوبيات المؤيّدة لإسرائيل واليمين الوسطيّ داخل الحزب، ويعطي زخماً غير مسبوق لخطاب اليسار في كلّ ما يتعلّق بفلسطين وسياسات الإسكان والضرائب على الشركات الكبرى والأثرياء، ومكافحة نفوذ الشركات العقاريّة التي يعدّ ترامب من رموزها.
عودة “السوروسيّين”
الأهمّ بالنسبة للمنطقة العربيّة، هو عودة الزخم إلى الجناح، بما لديه من أجندات سياسيّة واجتماعيّة. كان عهد بايدن من الأنشط على الإطلاق في تمويل ما يسمّى “قوى التغيير” في لبنان والعديد من دول المنطقة، إمّا عبر برامج الوكالة الأميركيّة للتنمية الدوليّة (USAID)، التي أوقفها ترامب تماماً، وإمّا عبر مؤسّسات الديمقراطيّين، وأشهرها “مؤسّسة المجتمع المفتوح” (OSF) للملياردير جورج سوروس، التي انتقلت إدارتها الفعليّة في السنوات الأخيرة إلى ابنه أليكس سوروس.
تعلن هذه المؤسّسة على موقعها أسماء العديد من الجمعيّات في لبنان التي استفادت بشكل مباشرٍ من تمويلاتها، وهي بالمجمل تدور في فلك “كلّنا إرادة” وقوى التغيير، ومنها “المفكّرة القانونية”، وموقع “درج”، والصندوق العربيّ للثقافة والفنون (آفاق)، ومؤسّسة “أريج” في الأردن التي درّبت العديد من الصحافيّين اللبنانيّين.
يعدّ سوروس الابن واحداً من أبرز وجوه اليهود التقدّميّين في نيويورك. هو لديه، كما كان لدى والده، ارتباط قويٌّ بأوباما والمؤسّسة التقليديّة في الحزب، لكنّ أجندته أكثر تقدّميّة وليبراليّة. من جهة يدعم الكثير من البرامج المتعلّقة بحقوق المثليّين، ومن جهة أخرى يواجه الانتقادات لتمويله الجمعيّات الإسرائيليّة والفلسطينيّة الداعمة “لحقوق الفلسطينيّين تحت الاحتلال” وتلك التي كانت تدعو إلى وقف إطلاق النار في غزّة. وقد جرّ عليه ذلك اتّهامات بمعاداة إسرائيل وتأييد “حماس”.
ليس واضحاً ما إذا كان أليكس سوروس مموّلاً لممداني، لكنّه بالتأكيد ليس بعيداً عنه. نشر صورة له مع عمدة نيويورك الجديد على منصّة “إكس”، مهنّئاً إيّاه بالفوز. هذا ما يشير إلى أنّ أجندة التمويل “التقدّميّ” تحوز زخماً جديداً إلى أن تكشف الانتخابات النصفيّة الأميركيّة عن معطى جديد العام المقبل.
حتّى ذلك الحين، يمكن للقوى التي استفادت من التمويل الأميركيّ السخيّ أن تأمل “خيراً” قبل انتخابات الربيع المقبل في لبنان.
