ابن بسوس.. شريك ترامب في الغولف تنتظره عوكر سفيراً

ابن بسوس.. شريك ترامب في الغولف تنتظره عوكر سفيراً

الكاتب: بتول يزبك | المصدر: المدن
14 تشرين الثاني 2025

مع وصول السفير الأميركيّ الجديد ميشال عيسى إلى بيروت، يعود اسمه إلى الواجهة، لا بوصفه رجل أعمالٍ من أصولٍ لبنانيّةٍ نجح في عالم المال والسيّارات فقط؛ بل كوجهٍ دبلوماسيّ مكلّفٍ اليوم بإحدى أعقد المهمّات في المنطقة، في بلدٍ تتقاطع على أرضه خطوط التوتّر بين واشنطن وطهران وتل أبيب من جهة، والدولة و”حزب الله” من جهة ثانية.

من بسوس إلى واشنطن، سيرة هجرةٍ لبنانيّةٍ مألوفة

يتحدّر ميشال عيسى من بلدة بسوس في قضاء عاليه، في محافظة جبل لبنان، تلك القرية الواقعة على تلالٍ تشرف على بيروت، على ارتفاعٍ يتراوح بين نحو مئتي متر وسبعمئة متر، ولا تبعد أكثر من خمسة عشر كيلومترًا عن العاصمة، ويقدّر عدد سكّانها بنحو ستّة آلاف نسمة.

قضى عيسى طفولته في بيروت، ثمّ غادر إلى باريس حيث درس الاقتصاد في “جامعة باريس نانتير”، وتابع دوراتٍ متخصّصةً في القانون المصرفيّ والتمويل والأوراق الماليّة، قبل أن ينتقل إلى نيويورك لاستكمال دراساته في إدارة المصارف، ثمّ استقرّ بين نيويورك وولاية فلوريدا.

وتعكس هذه السيرة الشخصيّة نمطًا معروفًا في الهجرة اللبنانيّة، وخصوصًا في قرى جبل لبنان؛ إذ عرفت بسوس، كغيرها من بلدات القضاء، موجات هجرةٍ واسعة منذ أواخر القرن التاسع عشر، استقرّ قسمٌ كبيرٌ من أبنائها في الولايات المتّحدة، إلى جانب دولٍ أخرى مثل فرنسا وكندا وأستراليا والبرازيل والمكسيك، وهذا ما جعل القرية حاضنةً لشبكةٍ واسعةٍ من المنتشرين وحملة الجنسيّة الأميركيّة.

اليوم، يعود أحد أبناء هذه البلدة، ولكن من بوّابة السفارة الأميركيّة في عوكر، لا كلبنانيٍّ مغترب؛ بل كسفيرٍ يمثّل دولةً كبرى في بلدٍ يحمل جنسيّته السابقة، بعدما تخلّى طوعًا عن جنسيّته اللبنانيّة، في خطوةٍ تفرضها القوانين الأميركيّة في معظم الحالات التي تتعلّق بتعيين مزدوجي الجنسيّة في مناصب حسّاسة.

رجل المصارف والسيّارات والغولف

قبل دخوله عالم الدبلوماسيّة، راكم ميشال عيسى مسيرةً طويلةً في القطاع الماليّ؛ إذ عمل في “اتّحاد المصارف العربية والفرنسية”، ثم في “تشيس مانهاتن بنك” و”بنك إندوسويز” و”كريدي أغريكول”، وتولّى إدارة غرف تداول العملات في باريس ونيويورك، وأشرف على تطوير أنظمةٍ متقدّمةٍ للتداول والالتزام والرقابة في المؤسّسات التي عمل فيها.

وفي أواخر التسعينيّات، انتقل من عالم البنوك إلى عالم السيّارات، فاستثمر في قطاع الوكالات، واستحوذ على شبكات توزيعٍ لعلاماتٍ مثل “بورشه” و”أودي” و”فولكسفاغن”، وأنشأ مجموعةً حقّقت عشرات ملايين الدولارات من المبيعات السنويّة، قبل أن يجزّئها ويبيعها مطلع العقد الماضي، مكتفيًا بإدارة استثماراتٍ ماليّةٍ وشركاتٍ خاصّة انطلاقًا من الولايات المتّحدة.

هذا المسار دفع الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب إلى تقديمه للرأي العام عند إعلان تعيينه على أنّه “رجل أعمالٍ بارزٌ وخبيرٌ ماليّ، وزعيمٌ يتمتّع بمسيرةٍ مميّزةٍ في العمل المصرفيّ وريادة الأعمال والتجارة الدوليّة”، مؤكّدًا أنّه على ثقةٍ بأنّ عيسى “سيخدم الولايات المتّحدة بشرفٍ وتميّز”.

إلّا أنّ ما خرج سريعًا من الكواليس إلى العلن، هو أنّ العلاقة بين الرجلين تتجاوز لغة السير الرسميّة، فالسفير الجديد يعرف أيضًا بأنّه “شريك ترامب في الغولف”، وهي هوايةٌ يواظب عليها منذ شبابه، وتحوّلت، إلى جانب خلفيّته الماليّة، إلى مصدر قربٍ شخصيٍّ من الرئيس السابق، وهو ما أعطى تعيينه في بيروت بعدًا سياسيًّا إضافيًّا يتجاوز تقليد اختيار دبلوماسيٍّ محترفٍ من سلّم وزارة الخارجيّة.

من قاعة مجلس الشيوخ إلى حقل الألغام اللبنانيّ

لم يكن طريق ميشال عيسى إلى بيروت مفروشًا بالورود، فترشيحه الذي أعلنه ترامب في آذار 2025 خضع لمسارٍ شائكٍ في لجنة العلاقات الخارجيّة في مجلس الشيوخ، قبل أن يقرّ بتصويتٍ متقاربٍ بلغ واحدًا وخمسين مؤيّدًا في مواجهة سبعةٍ وأربعين معارضًا، في انعكاسٍ واضحٍ للانقسام الحزبيّ الحادّ حول مقاربة إدارة ترامب للملفّ اللبنانيّ.

في جلسة الاستماع أمام اللجنة، أطلق السفير المعيّن مواقف تعتبر من الأكثر صراحةً بين من تولّى هذا المنصب في العقود الأخيرة؛ إذ قال إنّ “نزع سلاح حزب الله ليس اختيارًا؛ بل ضرورة، وإنّ الوقت للتحرّك هو الآن”، مؤكّدًا أنّ بقاء الحزب مسلّحًا “يقوّض سيادة الدولة ويعطّل أيّ إمكان لنهضةٍ اقتصاديّةٍ في لبنان”. ولم يكتف بذلك؛ بل ربط بوضوحٍ بين استمرار الدعم الأميركيّ للجيش اللبنانيّ والمؤسّسات الرسميّة من جهة، و”التزام الحكومة اللبنانية مسارًا واضحًا لنزع سلاح الميليشيات وتعزيز احتكار الدولة للسلاح والقرار الأمنيّ” من جهةٍ أخرى، في ترجمةٍ صريحةٍ لمعادلة العصا والجزرة التي تعتمدها واشنطن منذ سنوات في مقاربتها لبيروت.

ومع اقتراب موعد وصوله إلى لبنان، عاد عيسى ليحذّر من أنّ “صبر المجتمع الدوليّ ليس غير محدود”، في ظلّ المخاطر المتزايدة لتوسّع المواجهة مع إسرائيل على الجبهة الجنوبيّة، مؤكّدًا أنّ واشنطن لن تستطيع الاستمرار إلى ما لا نهاية في ضخّ الدعم الماليّ والعسكريّ من دون إصلاحاتٍ حقيقيّة، ومن دون خطواتٍ ملموسة على طريق حصر السلاح بيد الدولة.

أجندة السفير: “حزب الله” والجيش والإصلاحات

تشير مواقف ميشال عيسى، منذ لحظة ترشيحه حتّى صدور مرسوم تعيينه، إلى أنّ أولويّاته في لبنان ثلاثيّة الأبعاد، أوّلها ملفّ “حزب الله” والسلاح غير الشرعيّ، وثانيها مستقبل الجيش اللبنانيّ كقوّةٍ ضابطةٍ للحدود والداخل، وثالثها الإصلاحات الماليّة والاقتصاديّة المرتبطة بصندوق النقد الدوليّ والدعم الغربيّ.

في البعد الأوّل، ينسجم خطاب السفير الجديد تمامًا مع الخطّ المتشدّد لفريق ترامب في التعامل مع “حزب الله”؛ إذ يتحدّث عن “نزع سلاح الحزب” لا عن “تنظيمه” أو “دمجه”، ويقدّم ذلك شرطًا مسبقًا لأيّ استقرارٍ طويل الأمد، ما يضعه حكمًا في مواجهةٍ سياسيّةٍ غير معلنة مع الثنائيّ الشيعيّ والقوى المتحالفة معه، ويحمّله في الوقت نفسه ثقل إدارة علاقةٍ معقّدة مع رئيس البرلمان وحلفائه الذين ما زالوا يمسكون بمفاصل أساسيّةٍ في النظام اللبنانيّ.

في البعد الثاني، يركّز عيسى على الجيش باعتباره “المؤسّسة الوطنيّة الوحيدة القادرة على لعب دور المظلّة الأمنيّة لكلّ اللبنانيّين”، في ظلّ حديثٍ أميركيٍّ متكرّر عن إعادة توجيه المساعدات من الأجهزة المتعدّدة إلى الجيش تحديدًا، وربط هذه المساعدات بخطّةٍ واضحةٍ لضبط الحدود الجنوبيّة وتطبيق القرار 1701 تطبيقًا حرفيًّا.

أمّا في البعد الثالث، فيأتي الرجل من خلفيّةٍ مصرفيّةٍ واستثماريّةٍ تجعله شديد الحساسيّة تجاه المؤشّرات الماليّة والأرقام، ويبدو، وفق خطابه العلنيّ، مقتنعًا بأنّ لبنان لا يستطيع الاستمرار في طلب المساعدة من المجتمع الدوليّ من دون إعادة هيكلةٍ عميقةٍ لقطاعه المصرفيّ، وضبطٍ جدّيّ للماليّة العامّة، ولمسار الفساد المستشري في الدولة، بما ينسجم مع شروط صندوق النقد وسائر الجهات المانحة.

بسوس، قريةٌ صغيرة في قلب الجغرافيا السياسيّة

تحتلّ بلدة بسوس موقعًا رمزيًّا في قصّة هذا التعيين، فالقرية التي تجاور منطقة الجمهور ولا تبعد كثيرًا عن القماطيّة وسائر البلدات التي تعتبر بيئةً حاضنةً لـ”حزب الله” وحلفائه في قضاء عاليه، تتحوّل فجأةً إلى نقطة تقاطعٍ بين مسارين متناقضين، مسار “المقاومة” كما يفهمه الحزب، ومسار الضغط الدوليّ لنزع سلاحه، الذي يمثّله اليوم ابن بسوس من موقعه سفيرًا في عوكر.

في هذه البلدة أيضًا متحف الحرير الشهير، وهو مبنى حجريّ قديم تحيط به أشجار الزيتون والكروم، تحوّل إلى مقصدٍ سياحيٍّ وثقافيّ يستعيد جزءًا من ذاكرة جبل لبنان الاقتصاديّة قبل قرن، حين كان الحرير أحد أهمّ صادراته إلى أوروبا، ومن المفارقات أنّ سفير الولايات المتّحدة الجديد يأتي من قريةٍ كان اقتصادها متّكئًا على “طريق الحرير”، ليحمل اليوم أجندةً مرتبطةً بحركة رؤوس الأموال والعقوبات والصفقات النفطيّة والغازيّة في شرق المتوسّط.

وقد جعلت الهجرة من بسوس إلى الولايات المتّحدة كثيرًا من بيوت القرية مرتبطةً مباشرةً بمدنٍ مثل نيويورك وديترويت وهيوستن؛ إذ باتت عائلاتٌ كاملةٌ من أبنائها جزءًا من الجالية اللبنانيّة الكبيرة في أميركا، التي تقدّر بملايين من ذوي الأصول اللبنانيّة، ويشكّل أفرادها جسرًا متواصلًا بين الضفّتين، وفي هذا المعنى، يأتي تعيين عيسى سفيرًا كأحد أكثر الترجمات رمزيّةً لهذه الشبكة الممتدّة بين “الضيعة” والعالم.

مهمّةٌ في بيروت بين التوقّعات والوقائع

تفيد المعطيات الآتية من واشنطن وبيروت بأنّ السفير ميشال عيسى يصل إلى لبنان على رأس أجندةٍ مزدحمة، تبدأ بلقاء الرؤساء الثلاثة، من دون أن يحمل في زيارته الأولى أيّ جوابٍ إسرائيليٍّ نهائيّ في ملفّ المفاوضات الحدوديّة، وهو ما يشير إلى أنّ وظيفته الأولى ستكون الإصغاء و”جسّ النبض” أكثر ممّا هي إعلان مبادرات.

مع ذلك، لا يخفي المقرّبون من دوائر القرار في واشنطن أنّ الإدارة تراهن عليه، بحكم قربه الشخصيّ من ترامب وخبرته الماليّة، ليكون واجهة ضغطٍ سياسيٍّ واقتصاديٍّ على الطبقة الحاكمة في بيروت، ولاعبًا في الوساطة بين خطّة المبعوثين الأميركيّين لنزع سلاح “حزب الله” والوقائع المعقّدة على الأرض، بما في ذلك احتمال انفجارٍ عسكريٍّ أوسع مع إسرائيل إذا تعثّرت المسارات الدبلوماسيّة.

هكذا، يجد ابن بسوس نفسه اليوم في قلب “حقل ألغامٍ” لبنانيٍّ متشابك، فهو من جهةٍ يحمل ذاكرة طفولةٍ في بيروت وقريةٍ جبليّةٍ تحوّلت إلى رمزٍ للهجرة والاغتراب، ومن جهةٍ أخرى يجلس في مقعد سفيرٍ لدولةٍ كبرى ترى في لبنان ساحة اختبارٍ لتوازناتها مع إيران وإسرائيل وسائر القوى الإقليميّة، وبين هذين العالمين سيكتب فصلٌ جديد من سيرة ميشال عيسى، السفير الذي خرج من حارات بسوس القديمة إلى ملاعب الغولف في فلوريدا، قبل أن يعود إلى لبنان هذه المرّة، لا كمغتربٍ يزور مسقط رأسه في الصيف؛ بل كصاحب دورٍ مباشرٍ في رسم ملامح واحدةٍ من أدقّ اللحظات في تاريخ البلاد.