
معركةُ الوعيِ في الغرب ومعه: رؤيةٌ جديدة لحضارةٍ تشاركية
هي معركة في قلب الغرب ومعه. في قلبه لأنه منطلقها، وفيه مفكرون، مثقفون، سياسيون وأناس عاديون هم يخوضون هذه المعركة. أما معه، فتحتمل الوجهين. الوجه الأول هو خوض المعركة إلى جانب من يمثلون هذا الغرب. والثاني، تحتمل الـ”مع” هنا، صفة “الضد” أي معركة بوجه الغرب اليميني الذي لا يزال يقيم في ثقافة الكراهية تجاه العرب أو المسلمين، أو لا يزال يرتكس في زاوية استشراقية بنظرته إلى هذه المنطقة من العالم. أهمية هذه المعركة أنها تأتي في سياق فكري، سياسي، ثقافي، فلا يمكن وسمها كما أي حركة أخرى بالإرهاب أو بمعاداة السامية مثلاً. وأهمية هذه المعركة أنها تخاض بعد حملة عنيفة شُنت لإلغاء ندوة للمركز العربي ودراسة السياسات كان من المقرر عقدها بالتعاون مع الكوليج دو فرانس. لكن الإلغاء تحول إلى معركة يمكنها أن تبدأ لتبلغ حداً بعيداً في إعادة تشكيل الوعي وصناعته.
المآزق والأحلام
إصرار إدارة المركز العربي على عقد الندوة، يحمل أكثر من امتياز أبرزها لناحية التوقيت، إذ تأتي في اللحظة التي بدا فيها أن الشعبوية هي مستقبل حتمي للسياسة في أوروبا وأميركا، وسائر أنحاء العالم، وفي اللحظة التي بدا فيها اليمين واليسار كل في مأزق عميق، فكانت المفاجأة السارة، آتية من مدينة نيويورك، إذ أخرجت طرحاً حلمياً للديمقراطية الاشتراكية المنفتحة والمتصالحة مع ما يبدو تناقضات عرقية، ثقافية، أو دينية، أصبح بغتة واقعاً وأملاً قابلاً للتحقق. فهناك من يأتي ليقول إن المسألة ليست كذلك، وهو ما يظهر مع المشاركين ومضامين كلماتهم، ناهيك بكل إصدارات المركز.
الهزيمة والنجاة!
على هذا المنوال، في اللحظة التي يعيش فيها العالم العربي بين يأس وهزيمة أو استسلام حضاري كامل، وتخلّ عن الحقوق التاريخية والأخلاقية والوطنية، وبين طروحات الاستبداد والحروب الأهلية والطائفية، ظنّ البعض أن هذا قدر لا مفرّ منه، إن بالخضوع للتسلط أو بالاستسلام للاحتلال الإسرائيلي ومشروعه في الهيمنة والاستعمار. ولكن في ظل الحرب العالمية أو الكونية المفتوحة على عصر “السلاح” والمقاومات المسلحة، بهدف ضرب أي فكرة مقاومة، وفي مواجهة من لا يزال يروّج للهزيمة كما لو أنها نجاة، وأنه لا بد من مواصلة جلد الذات وإعلان التوبة كطقس مستمر بلا أي محاولة للمراجعة أو لتخيّل مستقبل أفضل. هناك من يلجأ للبحث عن بديل وعن إطار جديد.
الجريءُ والرائي الخلاصَ في ليل العرب
في لحظة كهذه، عرفها العرب بالتحديد، بعد نكبة الـ1948 ونكسة الـ1967، وبعد حروب ومحاولات ثورية فاشلة، واحتلالات متعددة، كان هناك دوماً من يتقدم ويتجرّأ ويفكر في غد أفضل وأقوى للتغلب على النكبات والهزائم، ويطرح رؤية جديدة للخلاص وتجاوز اليأس. بهذا المعنى لا بد من الإقرار بأنه كان ينقصنا الكثير من الحريات، ومن الشعور القومي والمؤسسات الناجحة، ومن والمعرفة والشجاعة الفكرية التي تعين على مواكبة العصر وعلى خوض المعارك المصيرية والحضارية.
رؤية وشراكة في تكوين الحضارة
من هنا تبرز أهمية ابتداع بدائل فكرية وسياسية، هادفة إلى صناعة رأي عام، وقادرة على صوغ رؤية مستقبلية للعرب، تخرجهم من التبعية أو الهزيمة، وتضعهم على طريق المشاركة في إعادة تكوين الحضارة والمساهمة في ما بناه الغرب وراكمه، وهذه لا تقل أهمية عن أي ميدان حربي أو اقتصادي، بل هي تقع في صلبه وتتقدم عليه. والدليل الأكبر إلى ذلك أن معركة الوعي التي خاضها المثقفون والناشطون في أنحاء العالم هي المعركة الوحيدة التي تشكل فرص الفوز على إسرائيل من جامعات أميركا إلى الجامعات الأوروبية كافة، ومن شوارع نيويورك ولوس أنجلوس إلى شوارع برلين وباريس وغيرها.
تثمير التضامن الإنساني سياسياً
وما يمكن المراكمة عليه والإنطلاق منه إلى الأوسع، هو الابتعاد الواضح في الرأي العام العالمي عن إسرائيل وسرديتها، وهو ما يشير إليه المدير العام للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات عزمي بشارة بالقول “إن خسارة إسرائيل هيمنة خطابها في الغرب، هو التحوّل الأهم الذي يجب الحفاظ عليه، وتحويل موجة التضامن من تضامن إنساني مع الضحايا ونفور من الوحشيّة الإسرائيليّة إلى تضامن سياسي لا يتوقف عند خطة لوقف الحرب تشمل جميع الشروط الإسرائيلية من دون حل عادل لقضية فلسطين”. وهنا تكمن المعركة الفعلية في مواصلة تغيير الرأي العام الغربي تجاه فلسطين وتجاه كل القضايا العربية.
تحوّلات كانت عصية على التصديق
الابتعاد عن السردية الإسرائيلية وتحديداً في أميركا وأوروبا، ولا سيما في صفوف الأجيال الشابة والناشئة. ففي أميركا، ينقسم الرأي العام إلى قسمين، الأول هو الرأي العام الجامع الذي يتراجع فيه التأييد لإسرائيل، والثاني على مستوى اليمين الجمهوري الذي تتراجع نسبته. وعلى مستوى الأحزاب، هناك تحوّل كبير في مزاج الرأي العام. ففي الحزب الديمقراطي، هناك تحول في اتجاه اليسار الذي ينتقد إسرائيل، وذلك، يبرز انتقاد أحد أهم رموز الديمقراطيين في الولايات المتحدة كنانسي بيلوسي التي توجه انتقادات قاسية إلى إسرائيل، وهذه تبدو مسألة جوهرية في التحولات كانت عصية على التصديق.
أوروبا التي تتغيَّر
أما أوروبا فهي تعيش تحولاً كبيراً يتعلق بالنظرة تجاه إسرائيل، وهو ما يظهر من خلال إقصاء إسرائيل عن المشهد العام عبر الإجراءات التي اتخذت بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وإقدام الاتحاد الأوروبي على إجراء دراسة جدية لوقف الاتفاقات التجارية مع إسرائيل، ويصل النقاش في أوروبا إلى حدود اعتبار إسرائيل بمصاف الدولة المارقة والمرتكبة. بينما اليمين الأوروبي المتطرف لا يزال يربط بين كراهيته للمهاجرين وتأييده لإسرائيل، ولكن ذلك ينعكس على الكثير من اليهود في هذه المجتمعات الذين يعتبرون أن تأييد اليمن المتطرف لهم ستكون له ارتدادات سلبية عليهم على المدى البعيد.
معركة الوعي
كل ذلك يدفع إلى الاستثمار في فرصة معركة الوعي المفتوحة، وهي انطلقت باندفاع من باريس بعد الحملة التي شنّت على ندوة المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، من خلال عملية تحريض ممنهجة، لكنها لم تبقَ معركة بين الغرب والشرق، أو معركة الأوروبيين ضد العرب، بل باتت بين الأوروبيين أنفسهم، تماماً كما هو حال الانفصال التام بين المؤيدين لإسرائيل والمعارضين لها في هذا الغرب، وهو ما تجلى في بيانات استنكار شديدة لإلغاء الندوة من قبل “الكوليج دو فرانس”، وفتح جمعيات أكاديمية وأبرزها الجمعيات الكبرى لدراسات الشرق الأوسط، معركةً لحمايةِ الحرية الأكاديمية. فمثل هذه المعارك، وبناءً على تشاركية عربية غربية، يمكنها أن تؤسس لمسار جديد من المعارك القائمة على الفكر والثقافة، وتعيد انتاج حضارة ثقافية عربية تتماهى مع العصر، وتؤثّر فيه، وتشارك في صناعته. أهمية الندوة أنها تؤسس لطرح رؤية عربية-غربية مشتركة سياسياً وثقافياً تعيد مصالحة الغرب مع الشرق، وتدمج المنطقة بكل خصوصياتها وحقوقها وتراثها وحاضرها مع العالم.
